لا أحد يستطيع أن يجزم بعد بأن المصالحة قد اكتملت، ولا يوجد أي إجماع على أنها ستكتمل أصلا. لكن ما بات مفهوما هو أن هناك نظاما عربيا جديدا يعمل بديناميكية متصلة.العرب أحمد أبو دوح [نُشر في 2017/10/04، العدد: 10771، ص(9)] ثمة تغيّر في العقلية أفضى إلى المصالحة بين الفصائل الفلسطينية. هذا التغيّر فرضته الظروف ولم يكن اختيارا. طريقة التعامل مع الأزمة كانت مختلفة، لذلك جاءت النتائج مختلفة. منذ انقلاب حماس واستيلائها على غزة عام 2007، لم تكن هناك أيّ حلول خارج الصندوق. ليست هذه هي المشكلة فقط، بل يقول الواقع أيضا إن الوسطاء، بمن فيهم مصر، لم تكن لديهم رغبة حقيقية في التوصل إلى مصالحة مكتملة. دخول قطر مثلا على خط المتاجرة بهذا الملف كان نتاجا لسياسة نظام حسني مبارك التي كانت تقوم على الوساطة بين الجانبين، ودفعهم للتفاوض من أجل التفاوض. نفس منطق مفاوضات السلام مع إسرائيل، لكن برعاية عربية. مبارك كان يخشى أن تقود أيّ مصالحة حقيقية بين الفلسطينيين إلى وصولهم إلى نضج سياسي قد يفضي إلى إضعاف قبضة مصر على الملف الفلسطيني. كان عقل مصر وقتها ساذجا تحكمه نزعة المنافسة التي لا معنى لها مع قوى عربية إقليمية أخرى. ظروف المنطقة اليوم غيرت هذه المعادلة. شكل التحالفات وموازين القوى تغيّر. هذا التغيير جعل علاقة مصر مع السعودية والإمارات تقوم على أسس استراتيجية جديدة ووفقا لرؤى تكاد تكون موحدة. هذه الرؤى جعلت النظام العربي يبدو وكأنه حلقة كبيرة متصلة بحلقات أصغر داخلها. كل هذه الحلقات (الإقليمية ثم القُطرية ثم المحلية) تدور معا بالتوازي حول نقطة مركزية، في نظام يشبه نظام المجموعة الشمسية. عندما تتحرك الدائرة الأكبر يكون على باقي الدوائر داخلها أن تتحرك أيضا. القوى الفلسطينية لم تكن لتتغلب على انقساماتها، إن لم تتمكن القوى الإقليمية أولا من القفز على خلافاتها. الأمر يشبه طريقة التصوير العكسي، بمعنى استرجاع الحالة الأولى للواقع المزري في المنطقة بالتصوير البطيء، وإعادته إلى شكله الأول، وكأن شيئا لم يكن. هذا بالضبط ما تحاول الدول الثلاث، التي يطلق عليها تقليديا محور الاعتدال، فعله. إعادة الإعمار أو استعادته. هذه النظرية تم تطبيقها على ملف المصالحة عندما بدأ كلّ من يعنيهم الأمر في فهم أن المشكلة ليست في حركة حماس، لكنها في محاولة تحويل هذه الحركة إلى “حزب الله” آخر. غير ذلك، ماذا سيخسر العرب طالما أن سلاح حماس غير موجه ضدهم، كما هو الحال مع “حزب الله”؟ هذه الحقيقة تدحض فكرة كثير من المغرضين الذين يصرون على أن هذا المحور يسعى إلى “نزع سلاح المقاومة” لصالح إسرائيل. ليس هناك نزع لأيّ سلاح طالما ظلت حماس “مقاومة”. ليست ثمة شكوك في أن حماس لم تكن كذلك في الماضي. طموح حماس تخطى فضاءات القضية الفلسطينية، وذهب لإمكانية لعب أدوار لا تقدر عليها كيانات ما تحت الدولة مثل حماس. إغراء قطر ودعمها كان سيحوّل حماس إلى نقطة التقاء مركزية بالنسبة إلى المشروع الإخواني في المنطقة. هذه المعطيات لم تترك أيّ خيار أمام مصر والسعودية والإمـارات إلا وقف هذا المسار بأيّ كلفة متاحة، حتى لو أدى ذلك إلى غلق معبر رفح ووقف دفع الرواتب وفاتورة الكهرباء. لم تكن إعادة توجيه مسار الأحداث في غزة ممكنة إلا عبر إجراء مصالحة واقعية لا تستند إلى العوامل الشكلية فقط. المشكلة كانت في حركة فتح، التي لم تمثل أيّ فتح، وإنما كانت مصدرا للانغلاق على نفسها، منذ صعود محمود عباس إلى السلطة. كان لا بد من وضعه تحت ضغط مماثل في نفس درجته وتأثيره للضغط الذي تعرضت له حماس. أيّ شيء من الممكن أن يكون مقبولا بالنسبة إلى عباس إلا الحديث عن تركه السلطة. هنا جاء دور محمد دحلان. لم يكن دحلان منذ البداية جزءا من عملية المصالحة على أساس أن يحلّ محلّ عباس. دعك من كل التقارير التي تصر على أنه خرج من ملف المصالحة دون أن يحصل على حصته. دحلان كان له دور محدد قام به، ثم انسحب في الوقت المطلوب. هذا الدور ببساطة هو الجسر الذي أوصل حكومة رامي الحمدالله في نهاية المطاف إلى غزة. كان سهلا جدا بالنسبة إلى دحلان أن يتحوّل إلى قوة انقسام داخل اللجنة المركزية لحركة فتح، أو حتى في منظمة التحرير الفلسطينية. هذا رجل له مؤيدون في كل مؤسسة ومكتب من مكاتب السلطة الفلسطينية. إن لم يتمكن من قسم الحركة إلى نصفين فكان يستطيع على الأقل أن يبقيها مشلولة وضامرة كما كانت دائما تحت قيادة عباس. في النهاية لم يكن لدى دحلان ما يخسره. رغم ذلك اختار دحلان أن يوظف إمكانيات تياره الإصلاحي كي يسهم في خلق وحدة فلسطينية أوسع. كل ما قام به دحلان ببساطة هو أنه استغل الانقسام، الذي هو جزء منه، في صفوف فتح، لإنهاء الانقسام في صفوف الشعب الفلسطيني. ما يمهّد الطريق لنجاح المصالحة هذه المرة هو أن الناس العاديين صاروا مهيئين لقبولها دون تحفظ. الغزاوي الذي تهدم بيته في الحرب الأخيرة ثم انقطع عنه الراتب قبل أن تنقطع عنه الكهرباء لم يعد مهتما بأسماء المسؤولين الذين يديرون شؤونه أو انتماءاتهم. كل ما يهمه في هذه المرحلة هو الوصول إلى استقرار مادي ومعيشي. لم يكن مستغربا مثلا رفع صور الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في غزة. هذا رئيس مصر، التي شبع المواطن الغزاوي ليلا ونهارا من دعاية وسائل الإعلام القطرية بأنها “تحاصر” القطاع، وتسعى إلى خنقه. بمجرد الحديث عن نجاح الوساطة المصرية وقرب إتمام المصالحة أغلق الفلسطينيون قناة الجزيرة ونزلوا إلى الشارع رافعين الأعلام المصرية. ليس ثمة تفسير لهذه المفارقة سوى أن الناس يحتاجون إلى إنجاز. دع السياسيين يتحدثون طوال الوقت ويدّعون أنهم يجوبون العالم من شرقه إلى غربه بحثا عن حلول لمشاكل الناس. الناس يقتنعون فقط بالحلول وليس بجهود البحث عنها. نعم، لا أحد يستطيع أن يجزم بعد بأن المصالحة الفلسطينية قد اكتملت، ولا يوجد أي إجماع على أنها ستكتمل أصلا. لكن ما بات مفهوما هو أن هناك نظاما عربيا جديدا يعمل بديناميكية متصلة ويملك مشروعا معتدلا، والأهم أنه يملك حلولا خارج الصندوق. كاتب مصريأحمد أبو دوح
مشاركة :