تركيبة حكومة ماي كانت شاذة منذ البداية. كيف يمكن حشر أشد المؤيدين لأوروبا والداعمين لخروج سلس منها والمصرّين على الخروج الصعب في غرفة واحدة.العرب أحمد أبو دوح [نُشر في 2017/10/10، العدد: 10777، ص(12)]القلق البريطاني من الملفات تيريزا ماي لم تكن يوما قائدا حقيقيا. هذه هي المرأة التي كان يطلق عليها، قبل ستة أشهر فقط، “المرأة الحديدية”. أين هي الآن؟ المشكلة في نظرة الشارع وقبوله بقيادة ماي. كون رئيسة الوزراء البريطانية امرأة لا يعني أي شيء بالنسبة للناخب الذي لم يعد لديه أي ثقة في الطبقة السياسية برمتها. الثقة هي ما يجعل الناخب في الديمقراطيات الليبرالية العريقة يقبل بأخطاء أحد السياسيين ولا يغفرها لآخر. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل امرأة أيضا، وارتكبت أخطاء فادحة، مثلما فعلت ماي. انظر كيف كان رد فعل الناس في بريطانيا، وكيف كان في ألمانيا. قبول مليون لاجئ في ألمانيا كان قرارا لا يحتمل تحليلا أو سوء فهم، أي سياسي في أوروبا يفعل ذلك يعرف أنه ينتحر سياسيا، فضلا عن أي طموح مستقبلي يمكن أن يصل إليه كخطوة قادمة في حياته العملية. في النهاية ميركل اختارت أن تتسق مع ما تعتقد أنه صواب. الناخبون يعرفون ذلك عنها، لذلك لم يكن العقاب بقطع الرقبة بل صوت الناس لليمين المتطرف كشدة أذن بسيطة. الطموح السياسي في المقابل هو ما جعل ماي في بريطانيا تتغاضى عن كل ما تعتقد أنه صواب. لم يكن لدى ماي مانع من الانتقال من معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي، الذي كانت تنتمي إليه طول الوقت، إلى أن تصبح من أشد الداعين لخروج صعب منه.أول من تخلى عن ماي هو جمهور حزب المحافظين، لأنها فشلت في فهم المعادلة السياسية الداخلية، بنفس قدر فشلها في فهم المشهد الأوروبي تركيبة حكومة ماي كانت شاذة منذ البداية. كيف يمكن حشر أشد المؤيدين لأوروبا والداعمين لخروج سلس منها والمصرّين على الخروج الصعب في غرفة واحدة، وتوقع أن يعملوا معا بشكل روتيني هادئ. ماي أرادت حكومة “قوية ومستقرة” تحظى بالتنوع من أجل قيادة البلد بكل قناعاته وقواه الحية. لكن النتيجة كانت حكومة هجينة أبعد ما تكون عن القوة، ولا علاقة لها بالاستقرار. هذا الاستعداد للمزايدة وركوب الموجة السياسية لا يصنع قادة مركزيين في المنظومات الإقليمية التي ينتمون إليها. عندما يكون الغرب أمام صعود ذائقة جديدة من اليمينية التي لا تستند إلى جمهور اليمين التقليدي، لا يكون الحل بالانتقال إلى هذا المعسكر الرابح. الناس لا يقبلون هذا التحول، ولا يكونون مستعدين للثقة في أصحابه. ثقة الناس ظلت متماسكة إزاء ميركل لأنها فهمت التحولات التي تجري في العالم مبكرا، واتخذت موقفا واضحا منها. هذا الموقف ظهر بوضوح في تعاملها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي ينظر إليه كتجسيد واقعي لهذا الانتقال نحو التطرف. الوقوف في وجه مشروع “اليمين الجديد” يكون عبر دعم مشروع ليبرالي مواز له. هذا المشروع قائم بالفعل بفضل استيعاب رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر لفائدة أوروبا ومشروعها بالنسبة لبريطانيا. الفرق بين تاتشر وماي أن الأولى فهمت المعادلة واختارت المخاطرة بمستقبلها من أجل تحقيق رؤية أبعد تجنب أوروبا مصيرها الدائم كساحة الحرب التقليدية بين الحضارات، والثانية قررت التضحية بكل ذلك من أجل بضعة أشهر في “10 داوننغ ستريت” تسجل في سيرتها الذاتية. رغم ذلك يبدو أن ماي ستواجه في النهاية نفس مصير تاتشر. اليوم يبدو السؤال عن ترك ماي رئاسة الوزراء متمحورا حول متى وليس هل؟ لا أحد يقف مع ماي، سوى مجموعة من السياسيين الذين ربطوا مستقبلهم السياسي بها. أول من تخلى عن ماي هو جمهور حزب المحافظين التقليدي، ببساطة لأنها فشلت في فهم المعادلة السياسية الداخلية، بنفس قدر فشلها في فهم المشهد الأوروبي. صعود زعيم حزب العمال جيرمي كوربين، الذي يشبه ميركل في تمسكه بمشروعه، جعل ماي تبدو كالروبوت الذي يردد جملا ممجوجة ومستهلكة وبلا أي معنى. عقاب الناس لجمود ماي، الذي أثر على الحزب أيضا، جاء في الانتخابات المبكرة التي أجريت في يونيو الماضي. في الوقت الذي نجح كوربين في الاقتراب من الناس وفرض شخصيته وكسب أرض في دوائر محافظة تقليديا، كانت ماي تقف على المنصات تردد “بريكست يعني بريكست”. لغة ماي صدمت الناس، فردوا عليها في الصناديق بصدمة مقابلة. لكن صعود كوربين، الذي كان من المفترض أن يقضي على قيادة المحافظين خلال أسابيع، هو السبب في بقاء الحزب في الحكم. ثمة رعب في أروقة الحزب من ترك السلطة، خشية من قفز العمال عليها. هذا فقط ما يبقي ماي على قيد الحياة سياسيا إلى الآن. هذا يضع مصير أوروبا بين امرأتين، الأولى تحاول تجميع ما تحطمه الثانية، لكن الأكيد أن الناس لم يعد لديهم أي أوهام في تحديد من منهما “المرأة الحديدية” حقا. أحمد أبو دوح
مشاركة :