من غير المحتمل أن يكون «داعش» هو المسؤول عن مذبحة مسجد مصعب بن عمير في ديالى، فالواقع والمنطق هما أنها طائفية، لانعكاساتها السياسية المباشرة وتغذيتها لتعميق الافتراق الطائفي في العراق وعرقلة أي جهد يعيد للعراق توازنه وتماسكه. «داعش» يستعرض دوماً أعماله ويوثقها سعياً لتحقيق الأثر المطلوب، ولا يمكن الرهان أن مثل هذا العمل سيجعل الناس في ديالى يرتدون إليه حتى مع احتمال وجود انعطافة سنيّة إيجابية نحو التنظيم لبشاعة الجريمة وخذلان الأمن العراقي تجاهها. قد يستفيد «داعش» بشكل غير مباشر، لكن الضرر ممتد إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليفصله إلى فسطاطين متحاربين بالضرورة. الجريمة حدثت في مسجد سنّي لا يشكل مركزاً أيديولوجياً وفي صلاة الجمعة مستهدفة أناساً لا يمثلون أي تيار، وليسوا مجندين لأية جهة، بل هم أفراد لبوا نداء الصلاة، فتقاطروا إلى المسجد ليجدوا رصاصاً حاقداً في انتظارهم يحركه حقد أعمى ونشوة لا تريد سوى الدم، وفرض واقع مستجد ظهرت بوادره في انسحاب النواب من تشكيل الحكومة. نجح المالكي خلال أعوام حكمه الظاهرة في شق المجتمع العراقي، ونشر الميليشيات الشيعية المسلحة ومنحها حرية القتل والتفجير، وإلباس الجيش والحكومة صبغة مذهبية حادة رسخها عبر خطاباته وممارساته التي تؤكد أن الحرب قادمة لا محالة، وأن تشيع العراق أمر لا مفر منه. المالكي لم يذهب من السلطة وإن اختفت صورته الظاهرة، فهو لا يزال الحاكم الفعلي للعراق، شرطة وجيشاً، ويقبض على كل الصلاحيات، والأرجح أن خطوة كهذه تضمن له دوراً مستقبلياً وحصانات أكثر تبقيه في السلطة وإن من خلف مسرح الدمى. لا يعني هذا أن المالكي متورط مباشرة في هذه الجريمة، لكن دوره الحقيقي أنه جعل السلاح مشاعاً والكراهية ناراً متقدة، والبغض صفة ثابتة في كل عراقي تجاه الطرف الآخر الذي أصبح عدواً تجب تصفيته، بحيث أصبح الدم هو لغة الحوار الوحيدة التي يفهمها الجميع. المالكي لم ينسحب من المشهد، ولم يقبل الهزيمة حتى إن أظهر ذلك شكلياً، فالحكومة قد لا تتشكل خلال المهلة المحددة بعد هذه المذبحة فيظل في السلطة في انتظار خيارات أخرى قد تبدل المشهد كلياً. هذه المذبحة علامة فارقة في مستقبل العراق، فإما أن تؤكد الفصائل المختلفة التي وقفت ضد المالكي أن النية جدية في صيانة العراق، وأن الخوف على العراق أصيل وحقيقي، وأنها فعلاً الحكومة الجديدة القادرة على التحقيق فعلياً في الجريمة ومعاقبة مرتكبيها خلال وقت وجيز، وإما ستقع في فخ شبكة العنكبوت تدير عينيها بعجز نحو سلسلة من الجرائم الانتقامية تكون الجمعة موعد انطلاقها، وحينها ستكون للميليشيات الدموية الكلمة الأخيرة. هذه الجريمة لن يغيبها الزمن سوى بمذبحة أخرى تفوقها بشاعة وحتى يمكن تحديد المجرم يجب، بدءاً، القضاء كلياً على كل ميليشيا مسلحة، وإعادة التوازن للجيش العراقي، وتأكيد أن الأمن سلطة وطنية فعلياً تحمي الجميع من دون استثناء، وليس أن تنفذ الجريمة بدعم علني من الجيش والشرطة كما قال رئيس مجلس النواب العراقي مبرهناً على أن المالكي، عبر أذرعته التي سقاها وأرواها، باقٍ ويتمدد في العراق، ولن يسمح بنزع سلطته أو التخلي عنها حتى تتحقق غايته، وحينها سيكون «داعش» مجرد لعبة طفولية عابرة. الخوف الوحيد أن الحكومة الجديدة ستظل جنيناً غير مكتمل، وبينما أسعف المجتمع الدولي وجودها، فإن جريمة واحدة قد تجهضها ما لم تستشعر أن العراق ليس نبتة عباد الشمس، بل وطن يعي أن فرصته الأخيرة في النجاة هي أن يكون مظلة شاملة لمواطنيه من دون تمييز. رحم الله العراق، حتى المساجد أضحت فيه مقابر شواهدها الوحيدة المالكي وميليشياته.
مشاركة :