الأقليات تكون أكثر خطرا وتهديدا على أمن الدولة التي تحتضنهم إذا كان إخوانهم من بني قوميتهم يجاورونهم في الحدود، لأن ذلك يقوي شوكتهم ولُحمتهم من جهة، كما يعزز رغبتهم في تكوين دولة مستقلة تجمع شملهم المتمزق تعتبر القضية الكردية من أحد أهم مخلفات الإرث الاستعماري البغيض في منطقة الشرق الأوسط والذي تقاسم احتلاله النفوذ البريطاني والفرنسي كلاعبين أساسيين في المنطقة؛ وتعاونا على اقتسام مناطق النفوذ والسلطة فيها بما يخدم مصالحهما الحالية آنذاك والمستقبلية لاحقاً، وذلك باستنزاف ثروات المنطقة وما تزخر به من موارد وإرث تاريخي وحضاري، وما تحملتا مسؤوليته في رسم الحدود الدولية لكل دولة من دول المنطقة بما يكفل توازن القوة بينهما والسيطرة والتبعية التاريخية لهما، بل والحاجة المستمرة للتدخل الدولي الدائم في المنطقة لحل الإشكالات والنزاعات المستمرة التي زُرعت بذورها وأُشعلت فتيل حربها منذ مرحلة تحديد الحدود السياسية في المنطقة في القرن السابق، وما ترتب عليه من تدخل دولي سافر من قطبي القوة الدولية المعاصرة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، هذا بالإضافة إلى ما لعبته القوة الإقليمية الفاعلة من دور، وبتأثير دولي في تحريك ميزان القوة بما يخدم المصالح الدولية من جهة، ومصالح القوة الوطنية والإقليمية في المنطقة، والتي تمثلت في الدولة العثمانية التي كانت لها السلطة آنذاك والنفوذ الإيراني في المنطقة. وفي ظل الأزمة القائمة حول مطالب ومساعي الأقلية الكردية العراقية بالاستقلال والانفصال عن تبعيتها التاريخية للعراق، وما تجده من دعم ومساندة دولية سواء أكانت ظاهرة أو مستترة، مع معارضة إقليمية ترتبط بالعديد من الاعتبارات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، التي ستدفع إلى مزيد من الاضطراب والتوتر والحروب في المنطقة، لكونها ستدفع وتحفز الأقليات التابعة لها إلى مزيد من الحركات الانفصالية للقومية الكردية في الدول المجاورة، فإنه يجدر بنا إلقاء بصيص من الضوء على الأقلية الكردية التي تعتبر من أكبر الأقليات القومية في المنطقة، والأخطر واقعاً وتأثيراً في منطقة الشرق الأوسط، لكونها تطمح إلى تكوين بلد مستقل يجمع شتاتها المتناثر بين ست دول تجاورها أرضاً، وتحول الحدود السياسية دون لُحمتها، ناهيك عن البقية الأخرى التي تنتشر في شتى دول العالم. تشير أحدث البيانات المنشورة إعلامياً (2016) أن الأكراد يبلغون في عددهم نحو 38 مليون كردي، وينقسمون في تكوينهم إلى أربع مجموعات يتكلم كل منها لغة مختلفة وهم الكرمانج، والكلهود، واللور، والكوران، وقد جاءت أسماؤهم من المصطلحات التاريخية التي كانت تطلق على الشعوب المتنقلة والبدو، ويغلب على طبيعتهم وحياتهم الطابع القبلي والعشائري فانتماؤهم للقبيلة أهم من الدولة، وينتشرون بين مناطق جبلية وعرة في جبال كردستان شمال شرق العراق وجبال زاجروس والبرز في إيران، وفي أرمينيا وأذربيجان وفي الجنوب الشرقي لتركيا، بالإضافة إلى الجزء الشمالي الشرقي من سورية، وقد أكسبتهم تلك البيئة الجبلية صلابة وعنادا وقوة واستقلالية، كما ساهمت في تمسكهم بالكثير من مبادئهم وعاداتهم القومية المتوارثة التي تميزهم عن غيرهم من الأقليات داخل الدول التي تحتضنهم، فحافظوا على قوة نسيجهم المجتمعي على الرغم من بعض الاختلافات بين عشائرهم التي يغذيها التدخل الخارجي لتحقيق مصالح مختلفة، ويمتد الأكراد كقومية في بقعة متصلة أرضاً وبشراً بين دول متجاورة تختلف في هويتها الوطنية، فتقسمهم الحدود السياسية بين الدول المتجاورة إلى جماعات متفرقة تعززها الخلافات الإقليمية، ويعتنق غالبهم الدين الإسلامي السني، وبينهم نسبة قليلة من المسلمين الشيعة والأزديين والمسيحيين، وكذلك قلة ممن يعتنقون المجوسية والزرادشتية، وتستأثر منطقتهم في العراق بأغنى الموارد سواء في إنتاجها الحيواني والزراعي أو في تركز المحصول النفطي العراقي في أراضيهم، حيث كركوك وأربيل والسليمانية والموصل، وذلك أهلَّها لأن تكون مركز استقطاب لأطماع دولية ومحل اهتمام محلي، هذا بالإضافة إلى أنهم يكادون يشكلون نحو 17% من نسبة السكان العراقيين، بما يجعلهم يشكلون ثقلا بشريا واقتصاديا واستراتيجيا بمنطقتهم الغنية بثرواتها، أما أكراد تركيا فهم الأغلب عدداً حيث يشكلون نحو 56% من جملة القومية الكردية، ويستأثرون بمنابع نهري دجلة والفرات، هذا إلى جانب أهمية منطقتهم الحدودية مع الدول المجاورة، بينما يتوزع الباقي بنسب متفاوتة في كل من إيران وسورية وأذربيجان وأرمينيا، وهم في مجموعهم يمثلون نقطة ضعف في النسيج الوطني لتلك الدول، بما يهدد أمنها القومي ويثير الشغب والتوتر المستمر بدرجات مختلفة. ولما كانت الأقليات عموماً في جميع دول العالم تعتبر من الفئات السكانية التي تعاني دوماً من هضم الحقوق وعدم المساواة وانتقاص في العدالة الاجتماعية والسياسية، بل ومختلف المستحقات التي تفرضها حقوق الإنسان والتبعية الوطنية، فإنه من الطبيعي أن يتولد لديهم نوع من الحقد وضعف الانتماء والسخط فيما يعيشونه من أوضاع وظروف تختلف عن نظرائهم ممن يشاركونهم الهوية الوطنية، وبما يهدد لُحمة النسيج الوطني وقوته بل ويجعلهم يتطلعون دوماً نحو الاستقلال والانفصال، ومن المعروف تاريخياً أن تلك الأقليات تكون أكثر خطراً وتهديداً على أمن الدولة التي تحتضنهم، إذا كان إخوانهم من بني قوميتهم يجاورونهم في الحدود، لأن ذلك يقوي شوكتهم ولُحمتهم من جهة، كما يعزز رغبتهم في تكوين دولة مستقلة تجمع شملهم المتمزق وتحتضنهم كشعب متجانس في جميع مقوماته وهويته الوطنية، وبما يمكنهم ويحقق لهم وزناً سياسياً واستراتيجياً على المستوى الإقليمي والدولي. ولقد فطنت الدول الأوروبية للخطر المترتب على تشتيت الأقلية القومية بين عدة دول، كما أدركت خطورة عدم دمجها في النسيج الوطني الجديد، خاصة الأقليات التابعة في الدول المتجاورة والتي تحاكي الحالة الكردية، فكانت الأقلية الألمانية هي النموذج الأوروبي الأهم بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وتقسيمها بداية إلى شرقية وغربية، وتحجيم مساحتها وسكانها باقتطاع أجزاء من أراضيها التي ضمتها عنوة في الحرب العالمية الأولى لتضمها بسكانها إلى الدول الأوروبية المجاورة في فرنسا وسويسرا وإيطاليا والنمسا وبولندا والدانمرك وغيرها، وذلك بهدف إضعاف شوكتها كدولة قوية معتدية، ولكن حرصت تلك الدول الحاضنة على مراعاة المساواة الاجتماعية والسياسية وكافة المستحقات الوطنية والإنسانية التي تضمن صَهر وانتماء تلك الأقلية ضمن النسيج الوطني الجديد، فكانت اللحمة والثراء الحضاري والمجتمعي في النسيج الوطني الأوروبي بموروثه التاريخي والقومي. ولكون منطقة الشرق الأوسط تمثل أرضية تتقاطع فيها المصالح الدولية مع المصالح الإقليمية والوطنية للمنطقة وشعوبها، فإن القوى الدولية تتآمر على مصير المنطقة في تأمين استمرار اشتعالها من خلال تغذية نقاط الخلاف بين تلك الأقلية وتبعيتها الوطنية وبما يدفع نحو استقلالها، وذلك بعد أن كانت سبباً في تشتيت الشعب الكردي وتقسيمه عند ترسيم الحدود السياسية الدولية بين الدول المتجاورة. والاستفسار الأهم المطروح لماذا لم تنجح جميع الدول التي احتضنت الأقلية الكردية في احتوائها ودمجها وصهرها مع النسيج الوطني خاصة في العراق وتركيا وإيران؟! لماذا لم تستفد تلك الدول من التجربة الأوروبية في آلية دمج الأقليات؟! وهل يكون الحل الأمثل في منحها استقلالا ذاتيا كونفدراليا لتظل في الكنف العراقي ومثله الكنف التركي، مع تحقيق استتباب للأمن الداخلي واستقرار لتلك الدول؟! أم يجب قمعها والسيطرة عليها لتظل قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار ما بين فينة وأخرى، بما ينذر بحرب قادمة تزيد المنطقة اشتعالاً؟!
مشاركة :