أن تكون مبدعاً، حين تكون مختلفاً، وهذا الاختلاف ليس شكلياً، ولا يصطنع في لعبة سطحية، بل يكون واحداً وموحداً في آن.العرب حميد سعيد [نُشر في 2017/10/07، العدد: 10774، ص(16)] يكثر الحديث عن التجريب في الإبداع، وهو غير ما اصطلح على تسميته في النص الفلسفي، بالتجريباتية، التي تجعل من الإحساس وليس من العقل معياراً للإدراك، وهو غير التجريبية العلمية، كما هي عند ابن الهيثم من العلماء العرب القدامى، وعند روجر بيكون من الأوروبيين. إنه محاولات التجاوز والإضافة في الإبداع، تجاوز القائم والموروث وإضافة ما هو جديد للتعبير عن متغير عام في الحياة الاجتماعية، إذ ليس من عمل إبداعي مهم في الكتابة الأدبية بكل أجناسها، وفي غيرها من ضروب الإبداع أيضاً، إلا واقترن بوعي تجريبي، والتجريب وسيلة لا غاية، وسيلة للوصول إلى أقصى جغرافية الإبداع من جهة، وتحقيق ما سأصفه تجوزاً بالكلاسيكية الخاصة من جهة ثانية، فإذا كانت الثقافات القومية مثلاً، تشتغل في محيط تجريبي لتصل إلى كلاسيكيتها، ولا أقول ثوابتها، لأن ما يبدو ثابتاً في مرحلة من المراحل، سرعان ما يناله التغيير، فإن مثل هذا الاشتغال يكون على صعيد الإبداع الفردي، مما يصل به إلى ملامح خاصة تميز العمل الإبداعي، وهذا التميز هو الذي يشكل الإضافة التي يقدمها المبدع إلى تاريخ الإبداع. يقول الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو “على المبدع أن يعيد اللغة التي ورثها وهي مختلفة عن تلك التي ورثها”، وهذه المقولة لا تنصرف إلى اللغة فحسب، بل يمكن أن تتوسع ليكون الاختلاف في العمل الإبداعي كله، وبجميع مكوناته، فماذا يضيف المبدع حين يكرر ما كان، وما أهمية أن يكون الإبداع مجرد إضافة كمية لا غير؟ أن تكون مبدعاً، حين تكون مختلفاً، وهذا الاختلاف ليس شكلياً، ولا يصطنع في لعبة سطحية، بل يكون واحداً وموحداً في آن. إن بعض العاملين في مجالات الإبداع، لا يقلدون الآخر فقط، بل يقلدون ما أبدعوا، هم أنفسهم، في مرحلة من مراحل عملهم الإبداعي، وهذا ما يجعل متابعتهم غير ذات جدوى، فلا تجد جديداً جماليا، حتى وإن كان الموضوع الذي تناوله المبدع لم يطرقه من قبل، لأن العمل الإبداعي ليس موضوعه، وإن كان الموضوع بعضاً منه. إن التجريب هو حاصل التفاعل بين الوعي والخبرة والمعرفة، وهذا هو أفق التجارب الإبداعية المهمة التي تواصل انفتاحها على الحياة. ثمة من يتساءل، إن كان التجريب يشكل عائقاً أمام تلقي المنجز الإبداعي، وهذا التساؤل ينفتح على نظرة قاصرة إلى التلقي، وكأنه مجرد استجابة سلبية، بينما هو حوار بين وعيين، وعي النص ووعي المتلقي، وليس من شك في أن القراءة المنغلقة على ما تعرف، لا المنفتحة على الحوار مع ما لا تعرف، هي قراءة تشكل عائقاً أمام أيِّ جديد. إن النصوص المسالمة الأنيقة والمنضبطة الهادئة، قد تحظى بإعجاب كثيرين، ويرون في من كتبها نجماً معشوقاً، يتعصبون له ويخاصمون من لا يشاركهم إعجابهم به، قد لا يجد فيها الناقد ما يثير اهتمامه أو يستطيع من خلاله تنشيط أدواته النقدية، كما نجد أن بعض التجارب الإبداعية، استأثرت باهتمام النقد في بداياتها أو في مرحلة من مراحلها، فإذا ابتعدت عن التجريب وتوقفت عن الإضافة، تناساها النقاد، وإلا فإن النص النقدي يتوقف هو الآخر ويحاصره التكرار أو الاضطرار إلى قراءة نقدية يشوبها الافتعال. إن أي نشاط فكري، لا بد أن يثير أسئلة، وإلاّ لن يترك أثراً ثقافياً عميقاً، حتى حين يقابل بالإعجاب، والنص الاستثنائي يستدعي تلقياً استثنائياً، حيث يلتقيان في حوار جاد متكافئ، وإن مثل هذا التلقي هو الذي يضيف إلى النص، بعيداً عن آهات الإعجاب، وكلما كان النص الإبداعي ثرياً بطبقاته الفكرية والجمالية، كان ميداناً مفتوحاً للتلقي الواعي والقراءات النقدية بكل مدارسها وتوجهاتها. كاتب عراقيحميد سعيد
مشاركة :