من المهم تحليل تطور وضع المقاومة لإسرائيل في العالم العربي، ومن الطبيعي أن يرتبط هذا الوضع بموقف العالم العربي نفسه من إسرائيل. عندما كان العالم العربي يشاطر مصر في نظرتها إلى إسرائيل على أنها سرطان يلتهم الجسد العربي كله وفق المشروع الصهيوني الذي رأي العرب بداياته ويتابعون مسيرته ويساهمون في هذه المسيرة- كانت مقاومة هذا السرطان أساسها هذا الفهم وكراهية العرب لهذا السرطان؛ ولذلك التف العرب حول المقاومة الفلسطينية على أساس أن موقف العرب من إسرائيل المناهض لهذا السرطان كان يعتمد على مبادرة الفلسطينيين برفض المشروع. ثم تمسك الفلسطينيون باستقلالهم في مواجهة التدخلات العربية في المقاومة، فانتقل المرض العربي إلى المقاومة وتمزقت إلى شرائح متنافسة تساندها دول عربية تُظهر غير ما تبطن، وكانت تلك فرصة ذهبية لإسرائيل لكي تتعامل مع المقاومة؛ فبدأت إسرائيل باغتيال المقاومين وفي الوقت نفسه ترغم الدولة التي تنطلق منها المقاومة على أثمانٍ عالية، من شأنها أن تثير شرائح عريضة من شعوبها ضد المقاومة وأن تضع إسرائيل شرطاً لوقف اعتدائها على الدولة بطرد المقاومة من أراضيها، وهي الحالة التي سادت في لبنان والأردن. أما سوريا، فقد استضافت المكاتب الإدارية للمقاومة دون أن تسمح بعمليات من أراضيها. ولكن الموقف العربي العام كان يدعم المقاومة وينظر إليها على أنها طبيعية ما دام الاحتلال الإسرائيلي قائماً، وعندما احتلت إسرائيل بيروت بتواطؤ عربي كانت الثورة الإسلامية في إيران قد حسمت أمرها منذ قيامها بالدخول مباشرة في صلب الصراع العربي-الإسرائيلي من منطلق ديني وسياسي، فاختارت معاداة إسرائيل ودعم الفلسطينيين، في اللحظة نفسها التي كان العرب، بقيادة مصر، باتفاقية كامب ديفيد، قد قررت عملياً التخلي عن فلسطين وفتح الطريق نحو إسرائيل فيما عُرف بمبادرات السلام العربية، التي كانت السعودية تقودها (مبادرة فهد 1981 ومبادرة عبد الله 2002). في هذه المرحلة، كان الموقف العربي قد ابتعد كثيراً عن دعم المقاومة على الأقل الفلسطينية؛ لأن المقاومة اللبنانية تولتها إيران، التي كانت وراء إنشاء حزب الله، فأصبحت مقاومة إسرائيل إسلامية -سنّية وشيعية- واتجه العرب نحو عنوان آخر وهمي وهو المصالحة الفلسطينية، والذي اتسم بأعلى درجات النفاق. ذلك أن العرب دعموا السلطة المتعاونة مع إسرائيل وابتعدوا عن المقاومة حتى انطلقت الثورات العربية ضد النظم العربية المستبدة، فكان ذلك فأْلاً طيباً للمقاومة لم يلبث أن انطفأ نجمه تحت ستار تدخل إيران في الشأن العربي والصراع مع السعودية، فاختار الخليج عموماً التخلي عن فلسطين إلا قليلاً. هكذا ارتبط موقف العرب من المقاومة بموقفهم من إسرائيل، وفي صفقة القرن يسهم العرب في القضاء على المقاومة، حماس، وإعلانها منظمة إرهابية، وحزب الله منظمة شيعية إرهابية مرتبطة بإيران. وهذه الصورة التي ابتدعها العرب ارتبطت بحرب استنزاف من جانب الصهاينة العرب ضد حزب الله وإيران في سوريا، وهي امتداد لكل مكونات وتحولات الصراع والتحالف مع إسرائيل. ومحنة المقاومة تظهر في اتجاه العرب إلى تصفية القضية والتخلص من المقاومة، بالضغط على أهالي غزة بكل صور الحصار، والتعاون مع إسرائيل في ذلك؛ حتى يثور القطاع ضد حماس. وبعد أن كان دحلان يتم إعداده لرئاسة غزة، فإن دحلان يتم إعداده لخلافة أبو مازن بالتفاهم مع أجنحة المقاومة مقابل إنقاذ أهالي غزة من الفناء، وذلك تحت وهم شعار وقف نفوذ إيران في فلسطين وتصفية القضية حتى تجفَّ منابع الدور الإيراني في الصراع مع إسرائيل من خلال المقاومة. هذا الوضع يشكل أكبر ضرر للأمن القومي المصري؛ لأن المقاومة هي خط الدفاع الأول عن مصر، وأن التخلص منها بالإضافة إلى بقية صفقة القرن، يضر الوطن المصري ضرراً استراتيجياً لا يمكن تجنبه. وللتذكير، فإن مصر عندما تصدت لإسرائيل في الصراع بصرف النظر عن النتائج، هي التي ساعدت على إنشاء المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأن تدهور مكانة مصر واختراق إسرائيل لها هو الذي أدى إلى كل المآسي العربية، وآخرها محنة المقاومة ضد إسرائيل؛ ولذلك فإن استعادة مصر وضعها ومكانتها ودورها في الدفاع عن العرب وقيادتهم والتحالف مع إيران وتركيا لتغيير الخرائط الجيوسياسية في المنطقة- هي الحل الذي يجب أن يتمناه كل مصري وعربي حريص على العروبة وعلى قلبها في مصر. ذلك أن محنة المقاومة هي عرَض لمرض عضال؛ وهو نجاح إسرائيل في كسر الجبل الأشم ضد تمدد المشروع الصهيوني؛ بل وضد بقاء إسرائيل على الخريطة؛ ولذلك اعتبر وزير خارجية إسرائيل اتفاقية كامب ديفيد هي الميلاد الثاني لإسرائيل؛ لأن هذه الاتفاقية أخرجت مصر من المعادلات الإقليمية وحوَّلتها من صخرة ضد المشروع إلى قنطرة لازدهار المشروع. ومصر هي الكاسب الأكبر بالمحافظة على الأمة، وعندما فقدت البوصلة في كامب ديفيد فقدت نفسها وتمزقت الأمة. إن التمسك بوحدة جسد الأمة وازدهارها لن يتم بالشعارات، وإنما بالحكم الديمقراطي، وهو التحدي الحقيقي لإسرائيل، التي تحرص على تعزيز الديكتاتوريات العربية؛ لبناء مجدها على جثة العرب، وهي التي تحالفت مع الصهاينة العرب لإحباط ثورات الشعوب التي كانت تبشر بحكم فعال للتنمية والاستقلال وتعزيز قضايا الحرية في العالم كله. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :