عرض سقط صدفة ينتصر للروح الإيجابية إذ يتحدث أبطاله كثيرًا عن رفض الموت وعشق الحياة وتحقيق الرغبات ولو في الخيال. العرب شريف الشافعي [نُشر في 2017/10/08، العدد: 10775، ص(13)]يتماس العرض المصري مع النص الإيطالي في تجسيد فكرة الموت الفوضوي حلت مسرحية “موت فوضوي صدفة” للكاتب الإيطالي داريو فو (1926- 2016) الحاصل على جائزة نوبل في الأدب 1997 ضيفة على مسرح “المعهد الفرنسي” بالقاهرة، بمعالجة مصرية جديدة، ضمن فعاليات “مهرجان أفانسين” لمسرح الشباب (1-7 أكتوبر 2017). حمل العرض المصري عنوانًا مختلفًا عن النص الأصلي هو “سقط صدفة”، مع الإشارة في بوستر العرض إلى أنه “مستوحى” من رائعة داريو فو التي سبق تقديمها من قبل أكثر من مرة على مسارح القاهرة وبرؤى مغايرة. “سقط صدفة” هو أحد العروض المتميزة لفريق مسرح كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وقد استضافه بالمعهد الفرنسي “مهرجان أفانسين المسرحي” المعنيّ بإبداعات الشباب على وجه الخصوص، وذلك إلى جوار خمسة عروض أخرى حققت نجاحًا لافتًا؛ هي “حرية المدينة” لبراين فرايل (إخراج محمود طنطاوي)، “الموت” لوودي آلن (إخراج أحمد شبل)، “أربعة فصول” (إخراج نورهان خالد)، “العش” (إبراهيم محمد)، “ضحايا الواجب” (فادي سمير). رؤية مغايرة يبدو أن إسماعيل إبراهيم، الذي تولى الدراماتورج والإخراج المسرحي لعرض “سقط صدفة”، أراد التحلل من قيود النص الإيطالي الأصلي “موت فوضوي صدفة” للكاتب داريو فو، وهذا ما يؤكده على نحو مبدئي تغيير عنوان المسرحية، للإشارة بادئ ذي بدء إلى أن المشاهدين على موعد مع نص عصري بروح مصرية. هذه الرغبة في تقديم طرح مختلف في ثوب مصري يؤكدها إسماعيل إبراهيم في حديثه لـ”العرب”، مشيرًا إلى أن النصوص العالمية الشهيرة تشكل بالنسبة إليه ولكثير من شباب المسرحيين مجرد نافذة للإطلال على الواقع المحلي الراهن بمشكلاته وأزماته وأيضًا بأحلامه وآماله، وعادة ما تحمل المعالجات المسرحية الجديدة للنصوص العالمية تغييرات جذرية في النص لكي يلائم واقعه الخاص الراهن مع الإبقاء على خيط رفيع من التماسّ مع الفكرة الأصلية.يعترف مخرج المسرحية بأن إحباطات شخصيات العرض تكاد تطغى على جملة أحداثه لكنه لا يميل إلى وصف المسرحية بالسوداوية التامة تدور المسرحية الأصلية “موت فوضوي صدفة” في إيطاليا، حيث يُتهم أحد الأفراد بتفجير محطة سكة حديد، وعلى الرغم من براءته يجري التحقيق معه بأساليب قاسية من التعذيب تنتهي بسقوطه من نافذة في الطابق الرابع، ثم يتم تقييد القضية على أنها “واقعة انتحار” لتكتمل منظومة الظلم والقهر إزاء المتهم البريء، وهو في الأساس شاب طموح، عاشق للتمثيل، وفي أثناء تقمصه دور القاضي كممثل يتمكن من كشف أمنيات وأحلام كثيرة تعتمل في ضمائر شخوص العرض. يلتقط العرض المصري الجديد “سقط صدفة” بعض الأفكار المفتاحية من النص الإيطالي، فالبطل “علي” يبدو مثل مريض نفسي، مجنون بالتمثيل، ويساعده تقمص الأدوار العديدة على قراءة مكنون شخصيات العرض، وهم جميعًا مزدوجون يحيون على عكس اتجاه أحلامهم وطموحاتهم. من خلال تمثيل مشهد غرفة التحقيق يجلس الجميع على كرسي الاعتراف وتتجلى أرواحهم الحقيقية، كما تتكشف معالم القهر والظلم السلطوي داخل المجتمع إذ يُدان كل منهم بتهم وهمية ملفقة (التفاحة مثلًا في حقيبة أحدهم يتم التعامل الهزلي معها بوصفها قنبلة). يتكشف الموت واقفًا خلف الجدار وثمة نافذة على الحائط الأسود، يتوالى السقوط منها ولا أحد يستطيع الجزم: هل يسقط الأبطال تباعًا من تلقاء أنفسهم منتحرين أم أن القوة القاهرة تدفعهم للسقوط؟ يصف المخرج إسماعيل إبراهيم التجربة في حديثه لـ”العرب” بأنها محاولة لقراءة الواقع الذي يعاني فيه الملايين من البشر من تغييب آمالهم وفقدانهم البوصلة والقدرة على التحرك نحو تحقيق أهدافهم وإنجاز مشروعاتهم بفعل الضغوط الخانقة في العمل والبيت والشارع والحياة الصعبة عمومًا، ومن ثم فإن العرض يقترح دعوة لقراءة الذات من جديد وإعادة اكتشاف الحلم. يعترف مخرج المسرحية بأن إحباطات شخصيات العرض تكاد تطغى على جملة أحداثه لكنه لا يميل إلى وصف المسرحية بالسوداوية التامة ، إذ تأتي لحظات الاعتراف في حياة كل شخصية بمثابة استعادة لبريق الأمل ولو لحظيًّا، والتفكير في كيفية ترميم الأحلام المنكسرة والمتشظية، فالمضي قدمًا في اتجاه خاطئ سنوات طويلة لا ينفي إمكانية عودة الإنسان إلى المسار الصحيح لرحلته.ينتصر عرض "سقط صدفة" للروح الإيجابية إذ يتحدث أبطاله كثيرا عن رفض الموت وعشق الحياة ثقب في الجدار ينتصر عرض “سقط صدفة” للروح الإيجابية إذ يتحدث أبطاله كثيرًا عن رفض الموت وعشق الحياة وتحقيق الرغبات ولو في الخيال عن طريق التقمص والتمثيل أو الارتداد إلى زمن لم يعد له وجود. وفي مونولوجات متتالية على كرسي الاعتراف يتحدث الشخوص عن أحلامهم ويحققونها افتراضيًّا، فعامل الدهانات الذي يتمنى أن يصبح شاعرًا يكتب قصائده بالفعل، والفتاة التي تحلم بالرقص ترقص ضد إرادة أسرتها المحافظة، وعاشق السينما يصل إلى مبتغاه عبر ولوج الشاشة السحرية العملاقة. ومن خلال ديكور محكم لهدير إبراهيم تتحول نافذة الجدار إلى أمل في تجاوز الواقع الخانق في بعض الأحيان وإلى هوة للسقوط في أحيان أخرى، كما في غرفة التحقيق والتعذيب. وهنا، يتماس العرض المصري مع النص الإيطالي حيث السقوط صدفة أو الموت الفوضوي صدفة من خلال هذه النافذة، بفعل فاعل على الأغلب (القوة القاهرة)، إذ لا يوجد ما يدفع أبطال العرض جميعًا إلى أن يكونوا انتحاريين على هذا النحو. النافذة ذاتها أيضًا تتحمل دلالات متوالدة لا تتوقف ولا تنتهي منها اتساعها لسقوط الأحلام المقتولة وامتدادها للسخرية من بطش السلطة التي عينت مواليًا لها في وظيفة “مدرّب السقوط من النوافذ” من أجل تدريب من تصفهم السلطة بالانتحاريين على أن يسقطوا من النافذة مقهورين ومستسلمين واحدًا تلو الآخر. جاء أداء الشخوص (أيمن عبدالعزيز، إيهاب عشماوي، أحمد مهران، مينا سامي، مروة محمد، محمد حسن) متسقًا مع حركاتهم السريعة الرشيقة مع نقلات النص المتتالية وحوارياته المقتضبة الرامزة بأقل عدد من الكلمات مع طلاقة في تنويع اللغة بين العربية الفصحى والعامية المصرية، وإفساح المجال للغناء وكذلك للأداء الصامت في مشاهد تتجاوز الحيز الضيق للغة بتعبيرات جسدية موحية. عنصر آخر من عناصر الإجادة في العرض هو “الإضاءة” لمحمد عبدالعزيز بما تحمله من تكثيف لحظات النصاعة والتوقد وأيضًا إبراز قسمات الانكسار وملامح الهزيمة والانصياع والفقد من خلال دائرة الضوء المحيطة بالممثل وسط الظلام. ويأتي التأليف الموسيقي لمحمد الزمر ملائمًا للنصين المسرحيين، الإيطالي والمصري، من خلال مزج بين وتريات الشرق ومقطوعات سيمفونية غربية، كما يستدعي جملًا موسيقية ولحنية من أعمال وطنية شهيرة لإكساب المسرحية خصوصيتها المحلية مع تلاحق الأحداث في غرفة التحقيق وفوق كرسي الاعتراف. كاتب من مصر
مشاركة :