عقدة قتل الابن بقلم: نوري الجراح

  • 10/8/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

حركة التجديد الشعري العربية لم تواكبها حركة نقدية نشطة ومتطوّرة يمكنها أن تستوعب التحولات التي طرأت على القصيدة العربية، وهذا شيء غريب ومؤسف حقاً.العرب نوري الجراح [نُشر في 2017/10/08، العدد: 10775، ص(11)] تسود الثقافة العربية، اليوم، حيرة كبيرة سببها السؤال العبثي عن جدوى البحث في الفرق بين فكرتين مختلفتين تماما هما: “تطوير” الشعر و”تغيير” الشعر. ويمكن مقابلة هاتين الفكرتين مع فكرتين أخريين لا بد من التمييز بينهما، هما “الحداثة” و”الحداثية”. فالحداثة كما نعرف هي مصطلح تاريخي لمنجز غربي في الثقافة والاجتماع. بينما الحداثية أو الحداثوية هي عملية أيديولوجية قادت إلى تحويل الحداثة إلى دين ثقافي يريد، وبكل طريقة، تثبيت نموذج شعري بوصفه الأفضل، ومن ثم نقل هذا النموذج من حيّز اللغة لتتحقق له هيمنة اجتماعية تتيح تعميمه. ولقد برز في هذا السياق من التعارض الشاعر الحداثوي المهووس بفكرة النموذج إلى حدود العقدة المرضية، كاشفاً عن فهم نخبوي قمعي للشعر يتسلّح بدوافع سلطوية أبوية مهجوسة بضرورة تسييد نفسها على الثقافة والاجتماع، بدعاوى فكرية شتى منها: حماية الهامش من المتن، والمتحول من الثابت، والأقليات من الأكثرية، وذلك عبر وعي يرى في طرفي العلاقة بين هذا وذاك تناقضا أبدياً تغيب عنه جدلية التاريخ. فالشاعر المتفكّر في الشعر والمجتمع، ينطلق، هنا، من منظور جوهراني ثابت لا يرى في الأكثرية أو المتن سوى أصولية مطبقة بامتياز وسلطة غاشمة لا بد من مواجهتها وقمعها والانتصار عليها حتى لو كان الثمن تحطيمها تماماً لتثبيت النموذج الحداثوي، وبدهي أن هذا الفهم وهذه الدعاوى يستدعيان وعياً لا يكترث بحقيقة التطورات الخاصة لثقافة الأكثرية المجتمعية. وهو سلوك يفتقر إلى الموضوعية والضمير معا. *** من وقت إلى آخر يخرج إلى واجهة النقاش الثقافي السؤال: هل نجح الشعر العربي بعد نحو قرن من سؤال التجديد والحداثة في أن يتجدّد ويجدّد معه مفهوم الناس للشعر. وما هي أبرز التحديات الجمالية والفكرية التي تواجهه اليوم؟تخطيط: ساي سرحان هذا سؤال يحتاج نقاداً يملكون مناهج قرائية حديثة ويتحلون بموضوعية عالية، وبالأريحية، ليمكّنهم أن يزنوا الشعر بميزان ذهب. لكن من منظور شاعر له نظرة وطريقة وخيارات لغوية وجمالية، أرى أن الشعر العربي الحديث أنجز مع بعض الشعراء المجددين أعمالا تحولت إلى لبنات أساسية في فكرة التجديد الشعري والفكري. حدث هذا خصوصا منذ منتصف القرن الماضي، وتواصل حتى اليوم وإن بوتائر متفاوتة. على أن حركة التجديد الشعري العربية لم تواكبها حركة نقدية نشطة ومتطوّرة يمكنها أن تستوعب التحولات التي طرأت على القصيدة العربية، وهذا شيء غريب ومؤسف حقاً. لم يتطوّر فهم يقوم على استيعاب ما حدث جماليا وتعبيرياً من تطوّرات عميقة حدثت في الشعر بجهود عدد من الشعراء المجددين. ولعل هذا القصور أحد الأسباب في الخلل القائم اليوم في علاقة الشعراء بالشعر، وعلاقة الشعراء بالشعراء، وعلاقة مجتمع القراءة بالشعرية العربية الحديثة. *** من ناحية أخرى كشفت الممارسة الشعرية العربية الحديثة عن علل وركاكات فكرية ورواسب ذهنية ونزعات أبوية لم يفلح “الشعراء النجوم” في التخلص منها وتظهر هذه المثالب خصوصا في خطاباتهم حول الشعر. وقد شوّشت هذه الميول على شعر البعض منهم فبدت علاقتهم بالأجيال الشعرية الجديدة متناقضة كثيراً مع لافتات التجديد والحداثة التي ظهروا في ظلها. في نظري أن هذه النزعات عكست على نحو ما، حقيقة أن هؤلاء الشعراء لم تفلح علاقتهم باللغة، الموصوفة بأنها حديثة، في تحرير وعيهم الشعري وتوجّهاتهم الفكرية لتملك الوهج نفسه والجدة نفسها التي تطلعت إليها قصائدهم. بل إن تلك النزعة الأبوية المهيمنة التي أسرت سلوكهم بإزاء الأجيال الشعرية اللاحقة وتجلّت في حواراتهم وخطاباتهم حول الشعر، وفي جوانب أساسية من توجّهاتهم الثقافية، إنما عاكست التطلعات الجمالية لشعرهم، وفي بعض الأحيان هددت تجاربهم الشعرية ووضعتها في مأزق من التناقض بين حداثة الإبداع وقدامة الوعي به. ويمكننا هنا أن نستعرض أسماء بارزة شكلت علامات فارقة في التجربة الشعرية العربية الحديثة ولعبت تجاربها أدوارا متفاوتة في صناعة الذائقة لدى جمهور الشعر كنزار قباني وعبدالوهاب البياتي وأدونيس ومحمود درويش، وهناك غيرهم. فقد هيمنت على شعر هؤلاء وسلوكهم في مجتمع الشعر فكرة مدمرة تتناقض في جوهرها مع جوهر الحداثة ومغامرة التجديد، وأعني بها القصيدة النموذج والشعر النموذج والشاعر النموذج. *** أتحدث عن نموذج، وليس عن أسماء. ولقد أحاط هذا النموذج للشاعر العربي الحديث نفسه على نحو غير مفهوم بهالة رسالية بوصفه نبي الشعر والحداثة والثورة، ورسم لنفسه صورة الأب الشعري الذي تليق به حلقة من الأبناء والنقاد المريدين يدورون في فلكه معظّمين منجزه، وبالتفافهم من حوله يغيظون منافسيه من الشعراء الأقران، ويبهجونه. فمادام الشاعر النجم صاحب طريقة ويريد لها أن تسود وتغلب، فلا بد له أن يظهر كقطب جاذب، وإلا كيف سيحقق لنفسه حضوراً طاغيا خالباً لألباب الأبناء والمريدين من الشعراء ونقاد الشعر وجمهوره ومحبيه، وكيف له من دون ذلك أن يتفوّق ويتسامى كنجم، وتكون له مكانة منظورة لا تخطئها العين! لا بد له إذن من أن يظهر كقطب عارف، فهو شاعر وراءٍ ومفكر.الشاعر الحداثوي بطبعته البطرياريكة الشرقية يسد بجسده المنهك طريق المستقبل، منقلبا، بصورة مأساوية، على فكرة التجديد التي اعتنقها في شبابه، وبدلا من أن يقبل من الأبناء الذهاب شعرياً أبعد مما ذهب، إذا به يقوم بتنفيذ عملية قتل رمزي لكل ما يعتبره تهديداً لنموذجه، مفصحاً عن عقدة مستحكمة بالشاعر البطريرك هي عقدة قتل الابن. أي قتل المستقبل *** هذا التطلب الغريب على الحياة الحديثة القائمة على التنوع، كرّس في الثقافة العربية فهما للشعر لم يبتعد كثيراً عن ماضيه البعيد يوم كان الشاعر فم القبيلة ولسان القوم، ويمكن له حتى أن يتطلع إلى مصاف الأنبياء فيتنبأ وينادونه “المتنبي”. ولئن كان ذلك متاحاً ومفهوماً في ماضي الثقافة العربية، فإن استعادة هذا الماضي بلباس حداثي هو ضرب من البؤس. أما التنظير له فهو ضرب من الهرطقة الفكاهية. فلا يعقل في زمن السفر في أعماق الكون بتكنولوجيا بشرية أن يواصل الشاعر العربي شعوره بأنه الرسول الغريب لدى بني قومه، اليوسفي المحسود (من يوسف الذي قطعت النساء أيديهن انبهارا بجماله). وهو حارس الشعر الحديث ببلاغته ومعانيه ورؤاه التي لم تقطع تماما (إلا بالأزياء الفنية) مع البلاغة التقليدية ومعانيها العليا. *** لقد اكتفى -الشاعر النموذج- من مغامرة التجديد بما كان الشعر قد حققه مع انطلاقة حركة التجديد الشعري في أواسط القرن الماضي، وها هو لا يكف عن إبداء خوفه على هذا المنجز الشعري من أن يتحطّم على أيدي شعراء جدد رأى فيهم مراهقين متطرّفين يهدّدون بطموحاتهم الشعرية فرادته ونجوميته. في وقت توحي له هواجسه البطرياركية بأن الرسول لا يشاركه آخرون في رسالته، وهو ما يختطف من ضوء حضوره ويهدد بتقليص هيمنة الاسم وظلّه الأبوي على أجيال لاحقة من الشعراء لا يرى الشاعر النجم أنها امتلكت، أو حتى قد تمتلك قدرات إبداعية خلاقة أو وعيا نقدياً كاشفا. وبالتالي فإن الشاعر النجم صاحب النموذج المهدّد بفعل مغامرات شعرية بدت له مراهقة أفصح على مدار الربع الأخير من القرن العشرين في خطاباته حول الشعر عن قلق على الشعرية العربية وجزع على دوره الرسالي المركزي فيها، متهما “الشعراء الشباب” (بعض هؤلاء وخط الشيب شعره) غالباً بتبديد الإرث الشعري، والانحدار بالشعر عبر الإفراط في العصيان والتجريب إلى أرض اللامعنى، بينما يقف هو حارسا للمعنى. ولم يعدم الشاعر النجم نقاداً يفكرون بطريقته ويشتغلون كفلاحين في تراب نموذجه الشعري. *** والآن، لنتأمل في التالي: إذا كان الطاغية يسدّ بوجوده القمعي طريق المستقبل ويمارس قتل المتطلعين إلى الغد، فإن الشاعر الحداثوي بطبعته البطرياريكة الشرقية يسدّ بجسده المنهك طريق المستقبل، منقلبا، بصورة مأساوية، على فكرة التجديد الشعري التي اعتنقها في شبابه، وبدلا من أن يقبل من الأبناء والمريدين الذهاب شعرياً أبعد مما ذهب، بل وإعطاءهم حق التمرد عليه، وهم بذلك يكونون امتدادا خلاقا لدوره المجدد؛ إذا به ينتفض خوفاً على نموذجه الشعري، ويقوم بتنفيذ عملية قتل رمزي لا تتوقف لكل ما يعتبره تهديداً لنموذجه، مفصحاً عن عقدة مستحكمة بالشاعر البطريرك هي بجلاء، ومن دون أي مواربة، عقدة قتل الابن. أي قتل المستقبل، وهنا تتجلى الشراكة بين الشاعر والديكتاتور.تخطيط: ساي سرحان *** إن نموذج الشاعر الحداثي صاحب النموذج الشعري ذي الطبعة الواحدة ذات الصفات الخالدة، يجرّم ثقافة الأكثرية، بوصفها تارة ثقافة شعبية، وأخرى ثقافة سلطوية، ما دامت تنتمي إلى المتن التاريخي للمركز، بإزاء هامش يمثله هو، وهذا التفكير يظهر بفعل الإفراط الحداثوي في اعتناق فكرة النموذج الموصوف؛ فهكذا تكون الحداثة أو لا تكون، وهكذا يكون الشعر أو لا يكون! وهكذا تكون الثورة أو لا تكون. ولعل هذا المرض الذي ضرب التجربة الشعرية العربية الحديثة هو ما جعل من الحداثة خرافة أيديولوجية، ومن الحداثية قيداً على الشعر، وجعل من الانحدار سمة عامة للتطور الشعري، لم تخرق قاعدتها تجارب مختلفة، إلا نادرا. المؤلم أن الشعراء الجدد اللاحقين على الشاعر النموذج أصابت كثرة منهم لوثة منه، ولم تنج من شرك إجلال النموذج المتعالي إلا قلة من الشعراء الجدد. ولهذا حديث آخر. *** أخيراً لا بد أن أشير إلى أن هذا التوصيف للشاعر النموذج وتحولاته، لا يتقصّد الانتقاص من الأدوار التي لعبها الشعراء المشار إليهم وآخرون معاصرون لهم، فقد اشتركوا جميعا، كل بمقدار، في نقل القصيدة العربية من طور إلى طور، وكان لكل منهم سهم في تطوير الشعر العربي وتثبيت قيم التجديد. لكن أكثر هؤلاء انقلبوا على تطلعاتهم الشعرية، كل بطريقة. وقد أفصحت الوقائع التي عرفتها الحياة الشعرية العربية عن أن درجات وعي التحولات ووعي أدوار الشعراء في المجتمعات هي ما ظلّ قاصراً في الثقافة العربية. فقد ظلت المغامرة الشعرية الحديثة متقدمة طوال الوقت والوعي النقدي بها متأخراً طوال الوقت، وهو بعض ما ساهم في عزلة الشعر. شاعر من سوريا مقيم في لندننوري الجراح

مشاركة :