محمد أمين | التاريخ يعود إلى أوروبا. وقد أظهر ذلك، على نحو صارخ، الاستفتاء في كتالونيا والانتخابات الألمانية. وقد يبدو أن حجم التصويت اليميني المتطرّف في ما كان يُعرف بألمانيا الشرقية، ومسيرة كتالونيا الواضحة نحو الاستقلال، وكأنهما حدثان على كوكبين منفصلين، مع أن معتقدات سياسية مختلفة تغذّيهما. ولكن، كان الإحباط هو الدافع في الحالتين، فقد توجه المواطنون الذين شعروا بأنهم تعرّضوا للإهانة، إلى صناديق الاقتراع. وفي بعض الحالات خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج. وفي كلتا الحالتين، هناك خلفية تاريخية حية، مع ذكريات كابوسية لأوروبا في القرن العشرين، تلعب دوراً مهماً. في كتالونيا، النضال ضد الفاشية وفرانكو. وفي ألمانيا الشرقية هناك التجربة مع النازية والشيوعية السوفيتية. في مدينة لايبزيغ وبلدة غريما الصغيرة القريبة منها، يتحدث المواطنون عن مشاعرهم إزاء امتهان كرامتهم، فإعادة توحيد ألمانيا لم تولد إحساساً بالمجتمع الواحد، وبدلاً من ذلك، تجري مقارنة ما حدث بالاستعمار، فالألمان «الغربيون» سيطروا على كل شيء، من الإدارات الإقليمية إلى المحاكم والتعليم والاقتصاد. وكل شيء عن الحياة في الدولة الشيوعية ــــ طريقة لبس الناس، وما كانوا يأكلون، وما كانوا يتعلمون في المدارس، وكيفية تزيين منازلهم، وما كانوا يشاهدونه على شاشة التلفزيون – أصبح هدفا للازدراء والسخرية. وهذا لا يعني القول إن الحياة ليست أفضل الآن. هي أفضل بالطبع. فهناك حرية. وتحسنت مستويات المعيشة بشكل هائل. لكن الكثير من الألمان الشرقيين يشعرون بأن هويتهم قد همِّشت بطريقة ما، كما لو طلب منهم نسيانها. مظالم متشابهة وهناك مظالم مشابهة يشعر بها الكتالونيون. يقول أحدهم «كنا ننتظر الإشارة بأنهم سيسمعون صوتنا، ولكن مع مرور السنوات لم يتغير شيء.. فلا اعتراف باختلافنا الثقافي». وهذه مشاعر شائعة، لدى الناس، حتى غير المتحمسين منهم لفكرة الانفصال عن أسبانيا. والهوية لا تتعلق بالسلطة والحقوق والمؤسسات فقط. فالألمان الشرقيون السابقون لا يطالبون بالانفصال ولا بالتمتع بوضع خاص. وكتالونيا منقسمة بشدة حول مسألة الاستقلال. كما لا يمكن اختزال الهوية بعوامل اقتصادية بحتة، كالأجور والدخل والوظائف والطبقة الاجتماعية. صحيح ان المناطق الواقعة في ألمانيا الشرقية السابقة فيها نسبة بطالة أعلى %7.1 من مناطق ألمانيا الغربية %5.1، ولكن الغضب الذي المعبر عنه في تصويت اليمين المتطرف في شرق ألمانيا تجاوز الظروف المادية. وفي كتالونيا، ازدهر الاقتصاد في العقود الأخيرة – ولكن ذلك لم يمنع الاحتجاجات. لقد مر جيل منذ إعادة توحيد ألمانيا عام 1990، وانضمت اسبانيا إلى النادي الأوروبي عام 1986. ومن الصعب المبالغة في الفوائد الناجمة عن ذلك. وكل من يزور مدينة لايبزيغ، من واجهات المباني الجميلة والهندسة المعمارية الحديثة والمدهشة في جامعتها، لن يلمس آثار الفقر الذي عاشته أوروبا الشرقية ذات يوم. وكان التحول في كتالونيا مذهلا أيضا. حيث تحسنت الطرق، وبنيت الفنادق، وعم الرخاء. انها منطقة تسدل الستار على الكآبة التي خلفتها سنوات فرانكو. وشكلت استضافة برشلونة للألعاب الأولمبية عام 1992، تتويجا لهذا النجاح. صدمات التاريخ ولكن هذه الإنجازات لا تترجم بالضرورة إلى عقول الناس. فالمشروع الأوروبي يستند إلى فكرة أن العلاقات الاقتصادية وتحسين الوضع الاجتماعي يوحد الناس ويساعدهم على التغلب على صدمات التاريخ. وفي السنوات الأخيرة، قيل الكثير عن ان النزعة القومية والشعوبية والشعور المناهض للمؤسسة، ما هي إلا رد على العولمة والظلم. ولكن لم يُعط انتباه كاف عن خصوصية أوروبية حصرية تتمثل في الظلال التي ألقتها صدمات القرن العشرين والتي نجمت عن الحروب والأنظمة الشمولية، والصعوبة – التي ما تزال قائمة – في التعاطي مع هذا الإرث. هذا هو التاريخ الذي انبثقت عنه التشنجات الشعبوية في أوروبا، فضلاً عن القوى التي دفعت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لانتخاب دونالد ترامب. لم تخضع بريطانيا أو الولايات المتحدة أبداً، للحكم الفاشي، أو العيش خلف ستار حديدي. فالشعبوية والتطرف في شتى أنحاء أوروبا، سواء من اليسار أو اليمين، تعود جذورها إلى المعارك السياسية ومرجعيات القرن العشرين. والأرجح أن القومية الكتالونية تختلف عن القومية الاستكلندية من حيث إنه يمكنها أن تنعش ذكريات القمع التي لا تزال حية في الأذهان. فعندما تبدأ حشود الجماهير في برشلونة بانشاد أغاني المقاومة القديمة ضد نظام فرانكو، فهذا استدعاء للتاريخ. ويعود التاريخ أيضاً حين يصوت %22.5 من الناخبين في ألمانيا الشرقية السابقة (ضعف عددهم في الجزء الغربي من البلاد) لمصلحة حزب «البديل لألمانيا» الذي يمثل برنامجه رفضاً لكل ما تمثله الديموقراطية الألمانية الغربية التي بنيت عليها ألمانيا الموحدة. أشباح الماضي لقد كانت الانتخابات الألمانية الشهر الماضي دليلاً واضحاً على أن الجدار ما زال ماثلاً في أذهان الناس. وتجد ألمانيا واسبانيا اليوم نفسيهما تواجهان أشباح الماضي – ليس فقط في ما يتعلق بالمشكلات ذات الصلة بالانسجام الاجتماعي ووحدة الأرض، أو في كيفية الحفاظ على النظام الدستوري. صحيح أن السياسيين يستغلون الاستقطاب، لكن من دواعي الدهشة ان ترى بعد اكثر من جيل على ارساء قواعد الديموقراطية في الدول التي عانت اسوأ ما في القرن العشرين هذا العدد الكبير من المواطنين يشعرون ان الكثير من مظالمهم لم تجد لها حلاً، بعد. كتب اشعيا برلين، الفيلسوف والمؤرخ وصاحب النظريات الاجتماعية والسياسية، البريطاني – الروسي، ذات يوم ان التطرف القومي يتغذى على الاحساس بجرح الكرامة والمهانة. والان، في الوقت الذي تحاول فيه اوروبا ترتيب امور بيتها والاستعداد للمستقبل، بما في ذلك خلال «المواثيق الديموقراطية» الشعبية المقررة في العام المقبل في جميع انحاء القارة، سيكون من الجيد ان تولي اهتماما اكبر لتلك الجروح التي خلفها التاريخ. تلك الجروح التي اعتقدنا انها التأمت لكنها ليست كذلك. ¶ غارديان ¶
مشاركة :