كان العنوان الرئيسي في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الرابع من أبريل الجاري عادياً تماماً: «بعد 37 عاماً من البحث.. إسرائيل تستعيد رفاة جندي مقتول»، لكن الذكريات التي يوقظها ذلك العنوان مؤلمة ومعقدة. فقد جاءت القصة الخبرية العادية المنشورة يوم الخميس الماضي على النحو التالي: قبل أربعة أيام على إدلاء الإسرائيليين بأصواتهم في الانتخابات، أُعيدت رفاة السيرجانت «زخاري باوميل»، المفقود منذ عام 1982، أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، إلى أسرته لدفنه. وتشير التقارير إلى أن قوات روسية وأخرى سورية عثرت على الرفاة، ومن ثم أرسلته روسيا إلى إسرائيل. وقوبل الحدث برُمته في إسرائيل باعتباره هدية ما قبل الانتخابات لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لاسيما أنه يواجه في الوقت الراهن اتهامات جنائية وشيكة تتراوح من الفساد إلى الرشوة. وربما تكون هذه قصة خبرية عادية، لكن بالنسبة لأي شخص مرتبط بلبنان وذكريات الحرب المدمرة في صيف عام 1982، فإن تلك الأحداث لا تمثل سوى رسالة تذكير بجروح عميقة لم تندمل أبداً. وهذه الأحداث توصف بأنها كانت «حرباً»، لكن في الواقع من الأفضل وصف ما حدث بأنه كان «اغتصاباً بربرياً لإحدى الدول»، ذلك أن الإسرائيليين بتفوق سلاحهم الجوي ومدفعيتهم اجتاحوا بوحشية جنوب لبنان ثم قصفوا ودمّروا الجانب الغربي الساحر من العاصمة اللبنانية بيروت، فدمّروا بنيتها التحتية وحتى مشافيها. وبعد ذلك، اجتاح جنود الاحتلال المدينة واحتلوها وسلبوها ونهبوها وأرهبوا السكان المدنيين واحتجزوهم بين أطلال بيروت. وعلى رغم من أن بعض الأميركيين يتذكرون المذابح في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بصبرا وشاتيلا (التي ارتكبتها مليشيا لبنانية متحالفة مع الإسرائيليين، بينما وقف جنود الاحتلال يحرسون المخيمات من الخارج)، لكن في الحقيقة كانت الحرب بأسرها مذبحة. وفي غضون ثلاثة أشهر فقط، سقط أكثر من 18000 قتيل من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، وأصيب أكثر من 30 ألفاً آخرين. وأتذكر تلك الفترة تماماً لأنني ساعدت حينئذ في تأسيس وإدارة مشروع «أنقذوا لبنان»، بهدف نقل الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين الذين أصيبوا بإصابات بالغة لتلقي العلاج الطبي في الولايات المتحدة، لأنه لم يكن متوافراً في غرب بيروت المدمّر. وكان عدد الأطفال الذين نقلوا إلى الولايات المتحدة 65 طفلاً. ومن بينهم فتاة صغيرة كانت تدعى «فايزة أمين»، عاشت مع أسرتي لمدة ستة أشهر، بينما عكف الأطباء على إنقاذ قدمها التي أصيبت بشظايا قنبلة عنقودية. ولدي صورة مع فايزة وفتاتين أخريين هما فاطمة وآمال، وهذه الصورة لا تزال معلقة على جدار مكتبي، فهي رسالة تذكير دائمة بآلام تلك الحرب. ولدّي أيضاً بضعة عبوات فارغة من القنابل العنقودية الإسرائيلية التي كنت قد عثرت عليها بالقرب من أحد المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان. وهي أيضاً رسائل تذكير بوحشية تلك الفترة. وبعد أقل من عقد ونصف العقد لاحقاً، انضممت إلى نائب الرئيس «آل جور» في غداء بالكنيست الإسرائيلي. وكنت واحداً من القادة المشاركين في مشروع كان نائب الرئيس قد أطلقه بعد فترة اتفاقات أوسلو للمساعدة على تعزيز الاقتصاد الفلسطيني. وأقرّ بأنني لم أكن أشعر بارتياح في ذلك الغداء لأنني كنت الأميركي الوحيد من أصل عربي في تلك القاعة المكتظة بأعضاء الكنيست وآل جور وبقية فريقه. وأصبح الوضع أكثر إزعاجاً عندما جلس أمامي جنرال إسرائيل سابق ومزعج، أضحى الآن عضواً في الكنيست، وحيّاني قائلاً: «أهلاً.. أنت لبناني، لقد زرت بلادك، وأحبّ جمالها». وفي محاولة مني إلى عدم لفت الانتباه، قلت له فقط: «أعرف أنك كنت هناك، وأنك لم تكن زائراً، وأعرف ما فعلته عندما كنت هناك، وقد كان مؤلماً جداً، ولست مكترثاً لسماعه منك». وبعد مرور بعض الوقت، ربما شعر «آل جور» بعدم ارتياحي، فأنقذني وجعلني أجلس إلى جوار «ليه رابين»، زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل «إسحق رابين». وأخبرها بأنني كنت قد زرت لتوي عائلتي في لبنان، وشجعني على إخبارها بالقصة. وأذكر أيضاً في تلك الليلة أنها كانت قبيل الانتخابات الإسرائيلية في عام 1996، ولم ترغب إدارة كلينتون في فعل أي شيء لمصلحة نتنياهو، الذي كان يتحدى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك «شيمون بيريز» (الذي خلف رابين بعد اغتياله)، وبدا أن آل جور عزم على ألا يتحدث أو حتى يعترف بنتنياهو. ولاحظت «ليه رابين» ذلك، وأخبرتني بينما كان صوتها ممزوجاً بالألم والحزن، أنها تُحمّل نتنياهو مسؤولية التحريض الذي أدى إلى قتل زوجها. وقيل ما قيل! تلك كانت بعض الذكريات التي لاحت بخاطري عندما قرأت مقال «نيويورك تايمز». والمشكلة هي أن تلك الذكريات لا يمكن أن تدفن مثل رفاة الجندي الإسرائيلي. فأولئك الذين أعجزتهم حرب لبنان سيظلون عاجزين طوال حياتهم. وأسر من قتلتهم القوات الجوية أو الميلشيا ستبقى مفجوعة على قتلاها. والآن يقف نتنياهو على أعتاب الفوز بفترة خامسة كرئيس للوزراء، وربما يساعده على ذلك عودة رفاة جندي قتل في اجتياح وحشي في صيف عام 1982. وهناك من يقولون ربما أنه يتعين علي أن أنسى ذلك الماضي المليء بالحزن والأسى وأن أمضي قدماً. لكن النسيان ليس خياراً، والعدالة وحدها هي العلاج الذي من شأنه أن يُعالج كل تلك الجروح القديمة. وفي ضوء كل ما يحدث الآن، تبدو العدالة أبعد مما كانت من قبل!
مشاركة :