صحاري نجد غير سهول روسيا، هنا البداوة وعسر الطبيعة، وهناك التمدن واليُسر، هنا التدين التاريخي الذي أفرزته ظاهرة «الجماعة السلفية المحتسبة» و«الصحوة» الإخوانية السرورية الرديفة لها، حتى جاء وقت الانتفاض على آثارهما، ومن داخل الحكم نفسه. لذا تُعد قيادة المرأة للسيارة، وإلغاء الولاية عليها، وإدخالها في الشأن السياسي والإداري، وإظهار الفنون، نهضة ضد التزمت الذي فرضته تلك الجماعات. بدأت العلاقات السوفييتية السعودية غير متأثرة بشيوعية موسكو وتدين الرياض، فعبدالكريم رؤوف حكيموف (أعدم 1938)، المعروف بـ«الباشا الأحمر» كان قنصلاً سوفييتياً بجدة (1924)، وسفيراً مفوضاً بصنعاء في ظل حكم الأئمة. كان حكيموف وراء ترتيب زيارة وزير الخارجية السعودي إلى موسكو عام 1932. اعترف الاتحاد السوفييتي عام 1926 بالحكم السعودي على نجد والحجاز، كأول دولة غير عربية تعلن ذلك الاعتراف، بينما كانت جماعة «إخوان مِن طاع الله» تخنق المجتمع، قبل القضاء عليها (1929-1930). تقول خديجة خانم، زوجة حكيموف، والتي كانت تُقيم معه بجدة، إنه خلال الاعتقالات التي حصلت بموسكو ضد كوادر الحزب الشيوعي السوفييتي (1937-1938)، استُدعي حكيموف إلى موسكو، وقد عرض عليه الملك عبدالعزيز (ت 1953) اللجوء، لكنه رفض، وبعد وصوله اعتقل ثم أُعدم، وقد أعيد له الاعتبار بعد حِقبة ستالين. جاء نصاً: "إن حكيموف ذهب ضحية العسف والتصفيات الجسدية" (مقابلة مع مجلة «المجلة»، العدد: 507/1989). يقول ماتوشكين موظف السفارة السوفييتية بجدة آنذاك: "إن أبواب السفارة قد أغلقت عام 1939 نهائياً، وكذلك أُعدم السفير السوفييتي الآخر بالسعودية نظير تيوراكوف" (المصدر نفسه). كانت الحرب الباردة (حتى 1990) مقابلة بين معسكرين، ومصر الناصرية فاعلة لتغيير الأنظمة الملكية، وما حرب اليمن (1967-1970) إلا ضمن ذلك الوضع، وعندها تأسست منظمات يسارية، ظهرت منها «اليمن الديمقراطي»، وما عُرف بـ«ثورة ظفار»، وكذلك الحراك اليساري بالجزيرة العربية، والسعودية على وجه الخصوص. يقول باقر إبراهيم عضو المكتب السياسي السابق للحزب الشيوعي العراقي، عن ذلك الحراك: "إن اهتمامات الحزب بالتغيير قديمة فيما يخص الدول المجاورة للعراق، وحصل أن اتصل قياديو «جبهة التحرير الوطني في السعودية» (1974) يطلبون استشارة في تبديل اسم منظمتهم إلى الحزب الشيوعي، فكانت المشورة البقاء على الاسم القديم، وعدم الاندفاع بالثورية، وعدم الابتعاد عن الواقع الاجتماعي والديني." لكن الثوريين السعوديين لم يأخذوا بالمشورة، وأعلنوا حزبهم (31/8/1975)، ولم يتفهموا الفارق بين الواقع العراقي الذي تقبّل اسم الشّيوعي، والواقع النجدي الطارد له. ويردف إبراهيم قائلاً: "إنه بعد عقد من ذلك التاريخ حدثت تطورات، فتبدلت الآراء والقناعات، وآثروا طريقة التعايش والتآلف مع مجتمعهم كتقدميين أو إسلاميين متنورين" (مذكرات باقر إبراهيم). هكذا كان الواقع الإقليمي يخضع لانقسام العالم بين المعسكرين، وموسكو في جوهره. عن التباس تلك المرحلة، لم يدرك الثوريون آنذاك مخاطر حركة مثل حركة جهيمان العتيبي (1979)، حفيدة «إخوان مَن طاع الله»، ثم التَّلاقح بالإسلام السياسي، لتشهد المنطقة ولادة القاعدة وداعش ومثيلاتهما. أخذت العاطفة أولئك إلى الطرب ببيت الشاعر: «يا جهيمان حدق»، ليغدو جهيمان جيفارا في أذهانهم! أذكر هذا مندهشاً من تبدل الدنيا، السريع في حساب التاريخ. نحن أمام تجربتين متزامنتين، بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، حسب مفاهيم الفترة السابقة، وإذا اللقاء يحصل، وبهذه القوة بعد خمسين عاماً من القطيعة بين العاصمتين. نعم تبدلت الدنيا، ودوام الحال من المحال، عقائد ومفاهيم ورؤى تتجدد كتجدد «المياه في النهر»، والمعاند وحده يصم أذنه عن صوتها الهادر! ولأبي نواس (نحو 199هـ) بيت شهير أطلق به روح التجديد، ولا أحسبه في الشعر وحده، إنما في حركة الحياة أيضاً: «قُل لمَن يبكي على رسمٍ درس/ واقفاً، ما ضَرَّ لو كان جلس». رشيد الخيّون r_alkhayoun@hotmail.com
مشاركة :