ثقافة العيب ستكلفنا ثمناً باهظاً!!

  • 10/20/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أصبحنا في القرن الحادي والعشرين.. وما زال بعض شبابنا يستشعرون الحرج والخجل من الالتحاق ببعض الأعمال والمهن الفنية كالنجارة والسباكة والحدادة وغير ذلك، حيث يُفضل أكثرهم الأعمال الإدارية والمكتبية، حتى لو كانت لا تدر عليهم إلا دخلاً مادياً قليلاً.. تكمن المشكلة في نظرة المجتمع لتلك المهن نظرة احتقار وامتهان، فهل نستيقظ يوماً على عزوف تام عن تلك المهن، ويبدأ المجتمع في المعاناة من النقص الحاد في العمالة الفنية والمدربة، وربما غياب المهن نفسها! نظرة خاطئة! للأسف.. لدينا ثقافة مجتمعية خاطئة، عندما يتم النظر إلى الشباب الذين يعملون بالمهن الحرفية والأعمال اليدوية نظرة دونية، كما أن بعض الفتيات لا يرغبن في الارتباط بشاب يعمل في بعض هذه المهن، وباتت الوظيفة التي تجعل صاحبها يجلس أمام مكتبه وفي غرفة مكيفة، هي الحلم والطموح لكل الشباب، وربما ساعد على هروب الشباب من تلك الحرف والمهن اليدوية والبسيطة عوامل أخرى تُضاف إلى نظرة المجتمع، مثل ضعف العائد المادي لكثيرٍ من تلك المهن، وتطور المجتمع الذي أصبح يستورد معظم منتجاته، ولم يعد يحتاج إلى بعض هذه المهن القديمة.. يقول «م. عبدالرحيم المرسي»، خبير التوظيف الدولي ونائب رئيس شعبة التوظيف بالخارج بالغرفة التجارية بالقاهرة: «أعتقد أن السبب الرئيسي في عزوف الشباب عن العمل ببعض المهن سببه الأول السياسات في بعض دولنا العربية، والتي تقلل من هذه المهن، فمثلاً لا يستطيع صاحب هذه المهن أن يلحق أولاده ببعض المدارس أو النوادي لأنها تشترط أن تكون وظيفة الأب كذا أو كذا، هذا بخلاف تعامل المجتمع ونظرته الدونية لتلك المهن، وبكل هذه آفات سيئة، تُبْعِد الشباب عن تلك المهن، فعامل القمامة وعلى الرغم من أنه صاحب مهنة من أهم المهن على الإطلاق، لكنه لا يأخذ حقه في المجتمع»، ويضيف المرسي: «النقطة الأهم هي الثقافة، وضرورة التوعية لأهمية وقيمة هذه المهن، وكيف أنها هي السبب الرئيسي في تقدم الفرد والدول، والارتقاء بقيمة الأوطان، ففي الغرب نجد أن أصحاب تلك المهن لهم مكانة واحترام يضاهي احترام الأطباء والمهندسين، ودعني أخبرك بشيء في بعض دول العالم يعتبرون أن من يجلس أمام مكتبه وفي غرفة مكيفة ليؤدي عملاً روتينياً.. أنه هو عالة على المنتجين وعالة على المجتمع، المصانع بها آلاف الفنيين والمهنيين، وعدد بسيط جداً من الإداريين». من جهته يرى «أحمد سعدالدين»، حاصل على درجة الليسانس، ويعمل ويدير ورشة لصناعة السجاد اليدوي، أن الأمر يحتاج إلى تشجيع ودعم من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، لتشجيع الشباب على العمل في هذه المجالات، البعيدة عن الوظائف المكتبية، من خلال إتاحة بعض الأماكن لمن يمتهنون هذه المهن، وعمل دورات تدريبية لتعليم المهن والحرف اليدوية، ويقول: «أطالب المدارس أن تنظم ورشاً دورية لطلابها لتعليمهم بعض المهن اليدوية والحرف البسيطة، هذا يعتبر جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية، وإذا كانت هناك بعض الحصص التي يتم خلالها تعليم التلاميذ أمور كهذه، فإنها تتم بشكل روتيني ودون احترافية، ويكون المعلم في حاجة إلى تمضية وقت الحصة بأسرع وقت ممكن، لكن إذا قامت المدرسة بتنظيم ورشة عمل لتلاميذها، واستدعت محترفي تلك المهنة من خارج المدرسة ليساعدوا التلاميذ على تعلمها فأظن أن الأمر سيختلف بكل تأكيد»، ويضيف سعدالدين: «بعد تخرجهم سيكون أمامهم الباب مفتوحاً إما للحصول على الوظائف المكتبية، أو أن يسلكوا مسار المهن اليدوية والتي حصلوا على أساسياتها مسبقاً خلال فترة الدراسة»، كما طالب الشركات والقطاع الصناعي باستيعاب طلاب المدارس الفنية والتقنية وتشجيعهم وتأهيلهم وتطوير أدائهم، فالمجتمع يحتاج إلى جهود كل أبنائه للمساهمة في البناء والتنمية والنهضة. تفضيل العمل الإداري! الواضح أنه إذا توافرت وظائف إدارية وأخرى مهنية أمام الشباب اليوم، فإن اختيار الشاب للوظيفة الإدارية سيكون مقدماً على اختياره للمهنية، وقد يكون هذا منطقياً جداً لطبيعة النفس البشرية، حيث يميل الشاب إلى الجلوس على مكتب، ثيابه نظيفة، وللأسف بات الذي يُقْبل على العمل المهني هم في أغلبهم أصحاب الظروف الخاصة، قد يكون ذلك راجع إلى المجتمع نفسه، الذي مازال ينظر نظرة دونية لمن يعمل في العمل المهني مع أنه من أشرف الأعمال وأكثرها احتراماً. يقول «م. أحمد العبد»، مهندس ومدير مشروع، إننا أصبحنا في سوق العمل في حاجة ماسة إلى وجود أعداد متزايدة من العمالة الماهرة أو حتى نصف الماهرة!، وذلك لسد الاحتياجات كي تواكب المشاريع القائمة والمستهدفة في المستقبل القريب، خاصة في ظل ارتفاع أجور العمالة الماهرة وندرتها، وهو ما قد يؤدي إلى عرقلة حركة الإنتاج وارتفاع تكلفة السلع والوحدات المنتجة بصورة خيالية، ونظراً للحاجة.. يتم توظيف المتاح حتى ولو كان قليل الخبرة، ما يؤدي إلى انخفاض جودة الأعمال التي يمارسونها وينعكس ذلك بطبيعة الحال على مستوى الدخل الوطني والفردي، وقد يكون السبب عائداً إلى احتقار الأعمال اليدوية، وإن كانت تلك المشكلة تخص فئة شباب اليوم فقط، إلا أنها وبكل أسف لها انعكاساتها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية برمتها للمجتمع، الأمر الذي يجعل التفكير في أسبابها وفي علاجها أمراً مطلوباً على وجه السرعة، وبالتالي ضرورة تغيير نظرة المجتمع تجاه ذلك، فالعمل المهني ليس عيباً، بل شرف لمن يعمل فيه، وقد استشهد «العبد» بما قد رآه في إيطاليا حيث يقول: «في روما على سبيل المثال يتولى الإيطاليون بأنفسهم نظافة بوابات العمارات الزجاجية، حيث تتولى السيدات عملية تنظيف هذه الواجهات الساعة السادسة صباحاً يومياً، مرتديات البالطو الأبيض وكأنهن طبيبات، ويحظر على أي شخص آخر غير إيطالي أن يقوم بهذه المهمة، وهذا من فرط اهتمامهم بالنظافة وتقديرهم لقيمة العمل». فكل المهن مهمة، لكن المطلوب هو تغيير الثقافة التقليدية السائدة والانفتاح على الثقافة الصناعية للعالم المتقدم، التي تعلي مبدأ أن العمل بمردوده. المهني.. ليس فاشلاً! لا بد من الاهتمام بالطلاب المهنيين وتحفيزهم وتشجيعهم على اقتحام مجالات العمل اليدوي بكافة أشكاله، لكن هذا لن يحدث إلا إذا تغيرت نظرة المجتمع الدونية لمن يعملون في هذه المجالات، وأن يكون هناك توعية للشباب والأسر بأهمية العمل الحرفي واليدوي، يقول الأستاذ «محمد بن ربيع الغامدي»: «طوال عمري الوظيفي الذي بدأ منذ نصف قرن كنت على مقربة من الشباب بحكم عملي في مجالات النشاط الطلابي وميادين رعاية الشباب، وحتى بعد تقاعدي بقيت تلك الصلة قائمة، بصورة تمكنني من القول أنّ ثقافة العيب هي ثقافة منقرضة، تجاوزها الشباب منذ عقد من الزمان وأكثر، ولم يعد المستوى الاجتماعي ضمن محدداتهم للقبول بالوظائف أو رفضها، لكن تلك الثقافة قد حل محلها محدد معيشي أكثر عقلانية من محددات العيب وأكثر تأثيراً، فالشاب منذ عقد ونصف يبحث عن وظيفة تنهض بمطالبه الحياتية، التي تفجرت مع تفجر التقنيات الحديثة، بينما أصحاب الأعمال يهمهم التوظيف بأقل قدر ممكن من الأجر، الذي لا يحقق حتى الحد الأدنى من تلك المطالب»، ويضيف الغامدي: «هنا يبدأ الشاب يقبل أو يفرض بحسم مقدار الراتب، ورغم تدخل الدولة بكثير من الخطط التي نجحت في كسب رضا نسبة لا بأس بها من طرفي القضية، إلا أن هناك نسبة أخرى ما تزال خارج دائرة الرضا»، ويتابع الغامدي: «أعتقد أن مشكلة توظيف الشباب عندنا هي مشكلة وقتية، وقد نجحت الحلول الحكومية والمبادرات الأهلية في تذليل جانب منها، لكن الأمل معقود على ما تنتظره البلاد من خير تضمنه لها رؤية 2030، التي ستجلب الكثير من الشركات العملاقة للعمل هنا، وسوف تتبنى أيضاً مشاريع عملاقة في مختلف جهات المملكة من شأن ذلك كله أن يوفر من فرص العمل ما يفوق حاجة الشباب بكثير». ثقافة العيب! يقول: «د.عبدالله بن علي الحمود»، المستشار النفسي والإداري وخبير تطوير الأداء للأفراد والمنظمات: «هناك عدة أسباب لرفض بعض المهن، أو العزوف عنها، ومن هذه الأسباب ثقافة العيب، وذلك بسبب بعض رواسب وأفكار اجتماعية، ومن الأسباب أيضاً أن بعض المهن أجورها متدنية ولا تفي بمتطلبات الشاب، وبعض المهن أيضاً تتطلب مجهوداً بدنياً عالياً، وهو ما يعزف عنه شباب هذه الأيام، وبعض المهن تتطلب ممن يؤديها ارتداء ملابس خاصة، ومنها ما له اسم غير لائق اجتماعياً كما يراه البعض، وفي كل الأحوال يجب تغيير ثقافة الشباب نحو العمل بشكل عام، والمهن الحرفية خصوصاً، وهذا دور المثقفين من أفراد المجتمع والمختصين على وجه الخصوص، فالوطن لا يتم بناؤه إلا بتنشيط جميع التخصصات المهنية». في عاصمة سلوفاكيا «براتيسلافا»، أقامت الحكومة تمثالًا لعامل نظافة هناك تخليدًا لدوره في تنظيف المدينة، وقصته التي آلمت الكثيرين هناك، خاصة أن الأمر له علاقة بمهنته، فعامل النظافة السلوفاكي أحب فتاةً، وقد بادلته المشاعر ذاتها، وعندما سألته عن مهنته، أخبرها بأنه عامل نظافة، فما كان منها إلا أن هجرته دون وداع، ولم تكن الفتاة على قدرٍ كافٍ من الشجاعة كي تصارحه بذلك، فوعدته على احتساء القهوة معه، لكنها أخلفت وعدها واختفت تماماً، بينما بقيّ هو في انتظارها في المكان المحدد، يوماً بعد يوم، وفي التوقيت ذاته، وفي المكان نفسه، بعد أيام أصابه الاكتئاب الشديد ودخل في نوبة نفسية سيئة انتهت بوفاته، وأُقِيمَ له تمثال، وبُنِيَّ مقهى إلى جواره، كي تأتي الناس لشرب القهوة، والتعبير عن حبهم له، والتعاطف معه، وتقديرهم لعمله، ولمهنة عمال النظافة، كي تبقى العاصمة «براتيسلافا» نظيفة وبراقة دوماً. أما في اليابان فيطلق على عامل النظافة «مهندس الصحة»، ويحظى براتب 5000 إلى 8000 دولار أمريكي شهرياً، أما في ألمانيا فقد نال عامل النظافة المركز الأول من بين المهن التي حازت تقدير سكان العاصمة برلين، حسبما أظهر استطلاع أجراه معهد فورسا الألماني لبحوث وقياس الرأي العام، أما القانون البريطاني فيعتبر مهنة عامل النظافة من المهن التي تمس الأمن القومي، ويشترط فيمن يتقدم لها أن يحمل الجنسية البريطانية دون سواها، والأمر ذاته موجود في السويد، والتي تشترط أن يحمل شهادة جامعية في البيئة، هذه مجرد لقطات سريعة من دول مختلفة حول العالم لمهنة واحدة، قد تبدو بسيطة أو معيبة من وجهة نظر البعض، وهى مهنة عامل النظافة، لكنها مهنة عظيمة ومحل تقدير في الأمم المتقدمة، لقد حان الوقت كي نتخلص من ثقافة العيب، ونعطي كل ذي قدرِ قدره.

مشاركة :