إذا فكّرنا في الطهو أبعد من المطبخ والنظرة الذكورية والأدوات البسيطة التي نستخدمها لصنع أطباقنا اليومية، نرى أنه فعل جماعي اجتماعي واقتصادي. بدءاً من المزروعات واللحوم والبهارات والزيوت وغيرها من المكوّنات، وصولاً الى اجتماع العائلة والأصدقاء والأقارب وزملاء العمل إلى مائدة الطعام وما يدور حولها من صفقات وأحاديث حميمة. وهنا نتنبّه إلى أن عملية الطهو تجمع قطاعات وعلوماً، أولها السيكولوجيا والاجتماع وليس آخرها السياسة. فالمكوّن الأساسي للطهو هو المياه، ثم الكائنات الحية. ومن ثم تأتي عناصر مثل النَفس (بمعنى المزاج) والفن والتاريخ الثقافي والعادات الغذائية والعلوم المطبخية لتصوغ مجتمعة الأطباق التي تتحكّم بأمزجتنا وشعورنا بالراحة أو عدمه. فهناك دراسات كثيرة ربطت بين العنف والنظام الغذائي للشخص، وبين الأخير والذكاء والنمو والطاقة. ولا ننسى النفط الذي لا يمكننا إتمام الطهو من دونه، والأدوات المطبخية التي تدخل في صلب الدورة الاقتصادية على اعتبارها من معدن وبلاستيك وخشب وغيرها من المواد. أما البيئة، فهي صلب هذا المطبخ الضخم الأشبه بخشبة مسرح فيها قائد وممثلون وكواليس ونصوص وعمال تقنيون، وفي النتيجة مسرحية يراها الجمهور منمّقة جاهزة للعرض... كل هذه العناصر التي هي موضع نزاعات اقتصادية عالمية اليوم، تدخل في صلب ثيمة الطهو كفعل سياسي. على طبق مُخاتل هذه القضية أرادت القيّمة ورئيسة جمعية «أشكال ألوان» للفنون اللبنانية كريستين طعمة، إلقاء الضوء عليها في الدورة الـ13 من بينالي الشارقة الذي حمل عنوان «تماوج» وتناول قضايا إنسانية وبيئية وحياتية ملحّة على رأسها المياه والمحاصيل الزراعية. وقد اختارت طعمة بعد الشارقة ودكار واسطنبول ورام الله، أن يكون الطهو ثيمة اختتام البينالي الذي اختارت بيروت مكاناً له وأتى تحت عنوان «على طبق مُخاتِل». وحول اختيار هذه الثيمة تحديداً بعد نقاشات مع منظّرين وقيّمين شاركوا في البينالي، تقول طعمة: «إن قراءة فعل الطهو كعنصر اجتماعي فيه تذوق واختبار وتجريب، وما يفضي إليه من عوالم، ليست غريبة عما اعتمل في أذهاننا طوال فترة تحضيرنا لهذه الدورة من بينالي الشارقة التي تتمحور حول «التماوج» والذي هو صعود وهبوط في الحركة، وهو أيضاً على نحو عمليّ براغماتي نهج للتعاون يخلف آثاراً وعلامات ولا يخطّ حدوداً فاصلة، فينشئ عمارات متكيفة، لا أراضي صلبة». وتضيف: «الطهو هو مزج الخرافة بالكيمياء، وإلمام بوصفات تتيح للسحر أن يحل في عالم الواقع، فيحوّل الكل واحداً». غذاء المستقبل وفي الأسبوع الاحتفالي لفاعليات بيروت التي تختتم غداً، استقرأت محاضرات وعروض أدائية الإرث المطبخي في إنتاج الانسان واستهلاكه له وكيف تساهم عادات البشر الغذائية، وخصوصاً في المنطقة العربية، في تشكيل أمزجة الناس الثقافية والسيكولوجية. وألقت الأعمال نظرة على مطابخنا وعلى ما في أحشائنا وما تُخفيها من سبل ومناهج يغدو الطبخ بموجبها ممارسة تجمع بين الناس أو تفرقهم، وذلك، من خلال موائد الغداء التفاعلية كالتي قدمها وائل لاذقاني وتعود إلى الجذور اللبنانية وأنظمة غذائها. فقد قدّمت مجموعة «سبورس» (Spurse) غداء أدائياً بعنوان «تآكل الماضي- مستقبل الكونية، تذوّق المستقبل»، بعد سلسلة من الجولات للبحث عن الأعشاب والنباتات الفريدة في لبنان من الجبل إلى الساحل، والتقاطها، ومن ثم قامت بتجارب إعدادها وطهوها ودعت الحاضرين لتذوقها على الغداء. لكن الصدمة الكبرى كانت في أن هذه الوجبات هي عبارة عن مجموعة أحجار صغيرة معدّة بأملاح معدنية وتراب ومياه بحر لبنان! فكانت «أطباق المستقبل» مقززة. ويطرح هذا النشاط تصوراً حول التأثير العميق لطرق الجمع والالتقاط والاكل على تشكّلنا، فيما نحن نسعى إلى تطوير تقنيات جديدة من شأنها تغيير عملية «أيضنا الكونية». إثنية الطعام ومن أكثر المحاضرات طرافة تلك التي ألقتها الكاتبة المصرية إيمان مرسال بعنوان «تأملات في لغة الطعام». فتوقفت مرسال أمام اللغة الشفهية في برامج الطبخ وفيديوات الهواة، واللغة المكتوبة في قوائم مجموعة عشوائية من المطاعم، مقدمة تأملات سردية عن «لغة الطعام»: اللغة الأجنبية والمستوى الشعبي من اللغة الأم، تأكيد أصالة إثنية الطبق أو أصالة محليته، وصف المكوّنات والمقادير والوقت الذي تستغرقه كل خطوة قبل الوصول إلى الطاولة. وتساءلت مرسال عن مفردات ومجازات صناعة الإلفة أو التشجيع على المغامرة، عن أشكال تأكيد هوية جماعية أو الاحتفاء بتميّز الطبقة الاجتماعية ومعرفتها بالمطابخ العالمية في وصفات الطعام. فيما تطرقت الكاتبة والمترجمة لينا منذر في محاضرتها بعنوان «جوع وهذيان: حكايات من زمن المجاعة الكبرى»، إلى تاريخ الجوع في المنطقة منطلقة من عام 1914 حين اندلعت انتفاضة خبز شهدتها بيروت بعد إعلان السلطنة العثمانية دخولها في الحرب العالمية الأولى. وعرضت منذر كيف حاصرت البحرية البريطانية والفرنسية المدينة وقطعت عنها الإمدادات من البحر، بينما قطع العثمانيون الطريق البرية، وكيف دخل سكان جبل لبنان والثغور في المجاعة. وأرادت أن تبيّن منذر أن «المجاعات ليست قضاء وقدراً، وإنما تقترفها أيدي تجار الحبوب»، كما يقول برتولد بريخت. وفي محاضرة «روابط ملزمة» استطلع طارق العريس وديبا باستي من مجموعة «فوريجر»، أنماط تشكل المجتمعات عبر تأمل كيمياء الطعام وعملية الطهو، فتجاوز الحديث عن نمذجة الاندماج والانصهار كمفردات للحسّ القومي. وعاينت باستي في المحاضرة سياسة الفضلات أو الطعام الفائض الذي يوضّب أو يحفظ أو يًستغنى عنه أو يُتبرع به، سعياً لفهم الطرق التي يدخل من خلالها نشوء الأمم والهويات الثقافية كعامل في تعريف الوجبة الأساسية ومخلفاتها. فيما ركز العريس على طبق «المفتقة» الطقوسي البيروتي للتوسع في الحديث عن مفاهيم التمزق أو الفتق، بغية صوغ طرح نظري حول المجتمع كبنية تعزز صفات التفتت والشتات... وألقيت محاضرات عن «طعم الجريمة» لسحر مندور، و «نزعات تفاعلية» لمونيكا هلكروت، و «جوع وهذيان» من تقديم لينا منذر، و «عن مخ نيتشه الثاني» لجيمس ت. هونغ. وتختتم فاعليات الفصل الثاني والأخير من بينالي الشارقة 13 «تماوج» غداً بمحاضرتين، تحمل الأولى عنوان «التاريخ أكل شيء» لسيلين كوندوريلّي، والثانية «عنوان» لفرتان أفاكيان، لتليهما قراءة للفنان ريان تابت بعنوان «عزيزتي فكتوريا»، وعرضا أداء هما «اندفاع» لهو روي آن، و «م . ا . ر . س .» لبهار تميز وفيليكس ماتياس أوطّ .
مشاركة :