رؤية – حمد الخروصيلابد أن نفرِّق ما بين القراءة النقدية المتخصصة والتي هدفها إظهار محاسن القصيدة الشعرية أو توضيح عيوبها الفنية للقارئ ومن ثم الحكم عليها بناءً على المعايير الفنية المتعارف عليها ومناهج المدارس الشعرية المختلفة وما بين القراءة الشعرية الانطباعية للقصيدة أو القراءة التأويلية والتي هدفها فك رموز القصيدة وتوضيح الغامض منها وتقريبها من وعي المتلقي ، وهذا التأويل يعتمد اعتمادا كليا على ثقافة الكاتب وذائقته وترابطه النفسي مع القصيدة واقترابه الشخصي أو الروحي من صاحب القصيدة ..فإن كانت القصيدة الواحدة تحتاج إلى إمكانات كثيرة لمحاولة الاقتراب من عمقها ، فما بالكم بقراءة تجربة كاملة تتشكل من مجموعة قصائد قيلت في أوقات مختلفة ومناسبات مختلفة وحالات نفسية مختلفة ، إنها بدون شك مجازفة ، ولكنها مجازفة ممتعة وضرورية أيضا ، هدفها إثرا الساحة الشعرية ، وإثارتها، فلربما يأتي من يخالف هذه القراءة بقراءةٍ موازية أو يكملها بقراءة أعمق وأخصب وأكثر وعيا ونضجاً.ولقد أخترت متحديا نفسي تجربة معروفة لمعظم متابعي القصيدة النبطية ، وأصبح خطها معروفا وأصبح أسلوب شاعرها متميزا ، فكانت قصائده كالسلم الصاعد نحو الأفق ، كل قصيدة تكملة لما قبلها وتنبؤا لما بعدها. إلا أن هذا النهج الواضح لأغلب المتابعين يقابله خلط عند البعض سببه ربما الجهل بهذه التجربة أو الحكم السطحي عليها نتيجة القراءة المستعجلة ، فشاعرنا يعُرَّف أحيانا بإنه شاعر الغربة والوطن ، وأحيانا بانه الشاعر الساخر،وأحيانا الشاعر السياسي وأجدني مقتنعا تماما بدمج كل هذه المسميات في مسمى واحد يشمل كل تلك المسميات المتناقضة وهو الشاعر علي السبعان !!.. فالشاعر علي السبعان الذي كتب قصيدة (موس ياسه) الموجعة هو نفسه الذي كان يعطّر قراء مجلة(جواهر)في عهدها بركنه الساخر سبعانيات ،وهو نفسه الذي كتب: تكتب يقينك شعر يقرونه ضنون بدري عليهم يا (علي) يفهمونه إذن شاعرنا مقتنع بإن هناك أطرافا تختلف حول أفكاره ومعتقداته الادبية وقصائده.وحتى لا تتشتت هذه القراءة وتتفرَّع في سماء تجربة كبيرة وخصبة لأي محاولة جادة للإقتراب من عمقها، أخترت أن أحدد أهم المحاور التي ترتكز عليها تجربة السبعان الشعرية ، فوجدت أنها ثلاثة محاور مهمة : 1-التلاعب اللغوي بالالفاظ ،2- البعد الفلسفي عند السبعان 3- تضمين الشاعر لأسمه في أهم قصائده -نقصد بأهم قصائده تلك التي أحدثت نقله إعلامية للشاعر- ، واخترت المحور الثالث ، لغرابته واعتقادي بإنه لا يوجد شاعر صاحب تجربة معروفة يتشابه مع شاعرنا في هذه الخاصية أو الظاهرة الغريبة.فالمتابع بتركيز لقصائد السبعان يلاحظ هوّس (علي) بمخاطبة نفسه في القصيدة ، والغريب إن أجمل قصائده وأشهرها جاءت على شكل حوار داخلي(مونولوج) ومتضمنةً لأسمه، وهو دائما ما يخاطب نفسه بالأسم ، وقراءتي هذه تتعمد أخذ هذا المحور أساسا لها ، رغم وجود محوريين مهمين يستحقان الاهتمام وهما: التلاعب اللغوي بالألفاظ ,والملاحظ أن هذا الأسلوب بدأ يتضح في قصائد شاعرنا الأخيرة، وهذا يدل على تأثره الكبير بزاوية (سبعانيات) حيث أن تلك الزاوية تعتمد على طرح الأفكار بواسطة التلاعب اللغوي بالألفاظ بأسلوب ساحر \ ساخر يحتوي على جدية ٍ أدبية في الطرح تجبر القارئ على التفاعل معها ، ومن القصائد التي طغى عليها هذا الأسلوب قصيدة (مو سياسه):لو دريتي وش جبَرْشاعــْرك يبلع موس ياسه جرحه اللي يذكره ويقول للعالَم نسيته فالشاعر قام بإعادة صياغة نفس المفردة بتحويلها إلى “مو سياسه ” بعد أن قام َ بتقطيعها وتوظيفها في بيت شعري جديد لتؤدي إلى معنى آخر. وايضا من أساليب التلاعب اللغوي بالالفاظ ، اسلوب الجناس ولن نخرج من نفس القصيدة ، حيث وظّف نفس اللفظ –مع إختلاف الضمائر- ولكن بمعان ٍ مختلفة ، كما في البيت القادم: في زمان صار فيه الشعر تطبيل ووناسه لا “يعاني” اللي اقول ولا يقول اللي “عنيته ” والجناس ينطبق على العجز في لفظة “يعاني” ولفظة “عنيته” فبرغم تشابه اللفظتان إلا أن كل لفظة لها معني مختلف فالأولى تعني “المعاناة ” والثانيه تعني “القصد” ، وأيضا في بيته من قصيدة شمس عمري:كنت احسبك في هاجرة عمري ظْلال لا يا (ظِلالي) كيف صرتي (ضَلالي) والشبه واضح ما بين المفردتين المقوستين والفرق كبير في معنى كل منهما ..أما المحور الثاني الذي أجده مهما ويستحق التوضيح والكشف هو البعد الفلسفي (الحكمة) في تجربة السبعان، كما في الأبيات التالية:. يعني الوطن وش هو؟ سعَف نخل وحصون!؟ في ذمّتي وش كثر من يجهلونه كم داخله عالم وخارجه يبقون وكم خارجه ناس ٍ وهم يحملونهوهذه الأبيات تعبّر عن قناعات الشاعر لمفاهيم جدا غامضة ومعقدة مثل مفهوم الوطن ، وهي قناعات تشكلت بعد غربه وسفر وحنين إلى الوطن الأول ، وإذا كان شاعرنا قد وصل إلى حالة الازدواج النفسي في شخصيته فهو أيضا قد وصل إلى مرحلة الازدواج النفسي في علاقته مع الوطن الجديد والوطن الأول، لقد أصبحت الغربة هي وطنه الجديد وهذه الغربة أصبحت رغبة وأمنية ، بل أن الشاعر وصل إلى حالة التوحد مع هذه الغربة ولعل قصيدته ” هناك \هنا ” توضح بشكل كبير هذا العلاقة الغامضة والمعقدة ما بين الشاعر والمكان ويكفي العنوان كدليل واضح على هذا التشظي وفي القصيدة نحس بإن الشاعر يريد أن يعقد صلحا ما بين الطرفين اللذين يتنازاعان عليه في داخله وهنا تتركز الازمة النفسية التي شكلت فكرة هذه القصيدة : من هناك اللي قَبِل يصبح (هناك) كان فيّ هْنَا وكان اسمه هِنا ومن نفس القصيدة: قال: اباعْرِف بسّ قِلْ لي وش عطاك فوق ما اعطيتك أنا؟.. ردّيت: اناوهذا الرد الصريح سأستغله ليكون مدخلا لقراءتي في المحور الأساسي وهو : تضمين الشاعر لأسمه في أهم وأشهر قصائده تحديدا ، لقد شدني الشاعر بتكرار اسمه في قصائده وأحيانا أجده يحاول التخلص من وضع اسمه في القصيدة ولكن هذه المحاولة تفشل حينما نجد الاسم متواريا تحت غطاء الضمير –كما في البيت السابق- ، أو أن يقومَ بتقمّص شخصية أخرى ليخاطبها في قصيدته ، وهذه الشخصية ما هي إلا شخصية الشاعر نفسه أو أنها صورة من الأصل كما في قصيدة “هبال” .. حيث يوجّه خطابه إلى والده ولو ركزنا في النص سنجد شخصية الشاعر متوارية خلف شخصية الوالد التي تغلّف النص بأكمله..فهل الشاعر مهووس باسمه وشخصيته إلى هذا الحد؟ ، أم إنه يشعر باختلاف الشاعر عن الانسان ويحاول أن يصلح ما بينهما؟ ،أم أنه يعيش في حالة انفصام تنقله بصورة لا واعية ما بين الشخصيتين؟، أم أن علي السبعان يصفّي حساباته مع نفسه ؟؟ ، أم أن هناك سببا آخر يحتاج للكثير من الوقت والجهد والمعرفة حتى يترأى لنا من خلف قصائد شاعرنا المحمّله بالحوارات الجادة والساخرة والمعاتبة؟.أسئلة كثيرة تحاول هذه القراءة الاقتراب من أجوبتها.
مشاركة :