أثار اختراق القوات العراقية سريعاً لمدينة كركوك يوم 16 أكتوبر 2017، وسيطرتها على المدينة المتنازع عليها مع إقليم كردستان، تساؤلات عدة حول دلالات العملية العسكرية الأخيرة، وتداعياتها العسكرية والسياسية؛ إذ تعد مدينة كركوك، المتعددة القوميات والأديان، ضمن المناطق المتنازع عليها دستورياً بين كردستان والحكومة العراقية، منذ تحوّل العراق إلى جمهورية عام 1958، بسبب الثروات النفطية بالمدينة، وتشبث الأكراد بالسيطرة عليها لاعتبارها «قدس كردستان»، وفقاً لوصف الزعيم الكردي الراحل، جلال طالباني. صراع بلا نهاية لا يمكن اعتبار الحسم العسكري السريع لمعركة اختراق كركوك، نهاية للصراع بين الحكومة العراقية وإقليم كردستان حول قضية الانفصال، إذ إن أطراف الصراع، الداخلية والإقليمية والدولية، ستعيد ترتيب أوراقها استعداداً لمرحلة جديدة من التصعيدين العسكري والسياسي، في إطار صراع معقد وممتد ومن المتوقع ألا يتم حسمه في الأمد القريب. كشفت سيطرة القوات العراقية على كركوك عن ضعف الجبهة الداخلية الكردستانية، حيث اتضح وجود خلافات لم تظهر إلا في لحظة المواجهة الحاسمة، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث صراعات داخل الإقليم، وربما اقتتال بين أجنحة الحزبين الرئيسين: الاتحاد الوطني، والحزب الديمقراطي. صراعات ما بعد «داعش» قامت القوى الكردية ببناء قوات محلية «البيشمركة الكردية» بعد عام 2003، مستفيدة في ذلك من الدعم الغربي، لاسيما الأميركي، وهو ما تزامن مع تصاعد التحديات الأمنية التي يشهدها العراق، مثل تهديدات الجماعات الإرهابية. وتُشير تقديرات وزارة البيشمركة لعام 2017 إلى أن تعدادهم قد وصل إلى ما يزيد على 230 ألف مقاتل، وقد استطاعت هذه القوات ملء الفراغ الأمني الذي خلّفه انسحاب القوات العراقية بعد تقدم «داعش» وسقوط الموصل عام 2014. وفي أكتوبر الجاري، طالبت الحكومة العراقية البيشمركة بالانسحاب إلى المناطق التي كانت فيها قبل السادس من يونيو 2014، وذلك ردّاً على تصميم إقليم كردستان على المضي قدماً في مخططات الانفصال عن الدولة العراقية عقب الاستفتاء الذي أُجري في 25 سبتمبر 2017، إلا أن القيادة الكردية كانت ترغب في صياغة نمط جديد من العلاقة مع العراق، ما دفعها إلى رفض الانسحاب، والتمسك بضم محافظة كركوك إلى إقليم كردستان. وقد أدى هذا إلى تفجّر أزمة إضافية ضمن حزمة الأزمات التي أثارها استفتاء كردستان، وتسبب ذلك في تصاعد الضغوط الشعبية على رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، ما دفعه، في 16 أكتوبر الجاري، إلى توجيه القوات الاتحادية إلى كركوك وفرض الأمن، وبسط سيطرتها على المحافظة، خصوصاً حقول النفط. حسابات ما قبل الحسم استندت القيادة الكردية، التي مثّلها رئيس الإقليم مسعود بارزاني، إلى مجموعة من عناصر القوة، كان أهمها تأييد أغلب القوى الكردية للاستفتاء، وفق ما أظهرته نتائج التصويت على خيار الانفصال، والدعم الدولي، لاسيما الأميركي، خصوصاً خلال الحرب ضد «داعش»، إضافة إلى الحالة الجيدة لاقتصاد الإقليم، والتسليح والتدريب العسكري للقوات الكردية. واعتمدت الحكومة العراقية في بغداد على الدعم الشعبي الجارف لوحدة العراق وعدم تقسيمه، واصطفاف أغلب القوى السياسية العراقية في البرلمان مع الإجراءات التي اتخذتها بغداد في مواجهة اتجاهات الانفصال، والروح المعنوية المتصاعدة مع تباشير الانتصار على «داعش»، إضافةً إلى جاهزية القوات العراقية للقتال. وحظيت الحكومة العراقية أيضاً بدعم إقليمي غير مسبوق، ساند أي سياسة تنتهجها الحكومة العراقية لمواجهة الميل الكردي نحو الانفصال، لاسيما من إيران وتركيا اللتين اعتبرتا سيناريو الانفصال الكردي استهدافاً لأمنهما القومي، ما جعل الحكومة العراقية تحسم خياراتها سريعاً بالتدخل العسكري المباشر، وإنهاء السيطرة الكردية على كركوك. دلالات الاختراق السريع فاجأت القوات العراقية الرأي العام، المحلي والدولي، بسرعة سيطرتها على مواقع القوات الكردية، التي انسحبت من دون مقاومة تُذكر إلا في بعض المواقع، وجاء ذلك عقب فترة قصيرة من احتشاد القوات العراقية على تخوم كركوك، وفشل الوساطات المحلية والإقليمية والدولية في تقريب وجهات النظر بين حكومتي بغداد وأربيل لحل الأزمة سلمياً. ومع انتهاء المهلة الممنوحة للقوات الكردية بتسليم مواقعها، دخلت القوات العراقية إلى مركز محافظة كركوك، وقامت بتعيين محافظ جديد بديل للمحافظ الكردي الذي تمت إقالته سابقاً من البرلمان الاتحادي في بغداد، وقد حدثت جميع هذه الأحداث في ما لا يزيد على 35 ساعة. ولم يكتمل مساء يوم 16 أكتوبر حتى سيطرت القوات العراقية على العديد من المناطق الحيوية، مثل: قضاء طوزخورماتو وأغلب مساحة كركوك وحقولها النفطية، ورافق ذلك موجة نزوح كبيرة للعائلات الكردية من هذه المناطق صوب محافظتي أربيل والسليمانية الخاضعتين لسلطة كردستان. ويرجع هذا التقدم السريع إلى الخلافات السياسية العميقة مع الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK)، والحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK)؛ وذلك بعد معارضة الاتحاد الوطني لإجراء الاستفتاء في هذا الوقت، وخشيته من سيطرة بارزاني على السلطة في الدولة المرتقبة. يضاف إلى هذا الضغط الإقليمي، لاسيما من إيران، على «الاتحاد الوطني» الذي ترتبط قياداته بعلاقات تاريخية مع طهران، وبصفة عامة يبدو أن الاتحاد الوطني يرى أنه ليس هناك جدوى من معاداة الدول الإقليمية، والمضي قدماً في إتمام إجراءات الانفصال، طالما أن هذا سيؤدي إلى دولة مغلقة غير مرحّب بها من قبل جيرانها. وهو ما دفع بعض قوات البيشمركة الكردية، التابعة لـ«الاتحاد الوطني»، للانسحاب من جنوب كركوك. وقد قام الحزب الديمقراطي الكردستاني باتهام حزب الاتحاد الوطني بأنه المسؤول عن فقدان السيطرة على كركوك، وكشف ذلك عن وجود خلافات عميقة قد تهدد في المستقبل وحدة الإقليم ذاته كياناً سياسياً وقانونياً وإدارياً. كما أن الحياد الأميركي إزاء المواجهة بين الطرفين، أدى إلى إضعاف الموقف الكردي، حيث إن الولايات المتحدة قامت كثيراً بممارسة دور الوسيط بين أربيل وبغداد عند حدوث خلافات بين الطرفين. تداعيات استعادة كركوك يتوقع أن يترتب على استعادة القوات العراقية لمدينة كركوك عدد من التداعيات، يمكن توضيحها في ما يلي: 1 إحكام الحصار الاقتصادي تُعد حقول كركوك النفطية أحد أبرز الموارد الاقتصادية التي تعتمد عليها كردستان في بناء دولتها المرتقبة؛ حيث تحتوي على عدد من آبار النفط المهمة في حقول الشمال كـ«بباكركر» و«باي حسن» وغيرهما، باحتياطي تقريبي يُقدر بنحو 13 مليار برميل، أي ما يعادل 12% من إجمالي احتياطي النفط العراقي، وهو مورد رئيس من موارد الميزانية العامة للدولة، بالإضافة إلى كونه مورداً لتأسيس دولة جديدة غنية بالنظر إلى حجم السكان الموجودين في إقليم كردستان، ومن المتوقع أن يؤدي فقدان هذه الحقول النفطية إلى تأجيل، أو ربما إلغاء، مشروع انفصال كردستان عن العراق. ويرتبط ذلك بسيطرة الحكومة العراقية على المنافذ الحدودية، وإغلاق الأجواء في الإقليم، والتحكم في الصادرات والواردات بعد سيطرتها على حقول كركوك، ما يسمح للحكومة بحصار الإقليم اقتصادياً بالتعاون مع دول الجوار. 2 تأجيج الصراعات الكردية كشفت سيطرة القوات العراقية على كركوك عن ضعف الجبهة الداخلية الكردستانية، حيث اتضح وجود خلافات لم تظهر إلا في لحظة المواجهة الحاسمة، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث صراعات داخل الإقليم، وربما اقتتال بين أجنحة الحزبين الرئيسين: «الاتحاد الوطني»، و«الحزب الديمقراطي»، وهو ما يُعيد سيناريو الحرب الأهلية في كردستان العراق، التي وقعت في منتصف التسعينات، وذهب ضحيتها ما يراوح بين 3000 و5000 شخص، بالإضافة إلى تهجير ما يقرب من 100 ألف شخص. 3 فرض تطبيق الدستور قد تقوم الحكومة المركزية بتطبيق سريع للمادة 140 من الدستور العراقي، الخاصة بأوضاع المناطق المتنازع عليها، وسيكون خياراً أكثر تفضيلاً لدى الحكومة في هذه المرحلة، لاسيما أنها تبسط سيطرتها على هذه المناطق، ما يسمح بتنظيم استفتاءات حول تقرير مصير هذه المناطق بمنأى عن الضغوط الكردية الموجودة سابقاً، وربما يحظى هذا الإجراء بدعم برلماني كبير تشارك فيه بعض القوى الكردية المعارضة لرئيس الإقليم. 4 إعادة ترسيم الحدود يتوقع أن تسعى الحكومة العراقية إلى إضعاف القوى الكردية التي تبنّت الاستفتاء، خصوصاً الحزب الديمقراطي الكردستاني وقياداته، وربما تدعم تغيير البارزاني بقيادة أكثر ولاء لبغداد، وقد تفرض الحكومة الاتحادية حدوداً جديدة لإقليم كردستان، تحاكي ما كانت عليه الحال قبل 2003، وذلك لضمان عدم تمدد الإقليم مجدداً وتفكيره في الانفصال مستقبلاً، وهو ما يُفقد الإقليم مساحات واسعة يتحرك فيها حالياً. 5 تحجيم المناورة الكردية ستؤدي السيطرة على كركوك، وإحكام الحصار على كردستان، إلى تأكيد قوة الدولة العراقية، واقتناع الأطراف الإقليمية والدولية بشكل أكبر بضرورة التعامل مع الحكومة المركزية في بغداد، في ما يتعلق بالملفات الاقتصادية والعلاقات التجارية مع الإقليم، وعدم تغليب مصالحها مع الإقليم على مصالح الحكومة المركزية، ما سيفقد الإقليم جزءاً كبيراً من قدرته على المناورة مع الحكومة المركزية. 6 تفجّر المواجهات العسكرية قد لا يستسلم الإقليم أمام التراجع الكبير الذي حدث في كركوك، وقد تقوم القوات العسكرية التابعة لرئيس الإقليم والحزب الديمقراطي الكردستاني بتنفيذ هجوم مضادّ على القوات العسكرية العراقية لرفع الروح المعنوية لمؤيديه، ساعياً في الوقت ذاته إلى كسب دعم الولايات المتحدة، بالإشارة إلى دور مزعوم للحرس الثوري الإيراني في قيادة القوات العراقية عامة، والحشد الشعبي خصوصاً، في عملية استعادة كركوك، مستفيداً من الخلاف المتصاعد بين الولايات المتحدة وإيران.
مشاركة :