في ظل وجود الدافعين القويين، الدافع السياسي والدافع الاقتصادي، يمكن تفسير سرعة تنامي العلاقات السعودية العراقية في الأشهر الأخيرة وتجاوزها العديد من الأسلاك الشائكة التي أحدثت ندوبا عند الطرفين.العرب محمد العصيمي [نُشر في 2017/10/24، العدد: 10791، ص(8)] بمناسبة زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية وتوقيع اتفاقية مجلس التنسيق السعودي العراقي هل يمكن بحق اعتبار عام 2017 هو عام تصفير الخلافات والمشكلات بين بغداد والرياض، أم أن الحكم على هذه العلاقات وتطورها في المستقبل ما زال مبكرا؟ العلاقات السعودية-العراقية انقطعت لما يزيد عن ربع قرن، أي منذ غزو نظام صدام حسين للكويت في عام 1990. واستمر توتر هذه العلاقات خلال الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 وما تلاه من تكوين حكومة بقيادة حزب الدعوة الشيعي. وفي أثناء رئاسة نوري المالكي للحكومة العراقية زاد تأزم العلاقات بين البلدين من جراء اعتماده سياسة طائفية وتمكينه إيران من بسط نفوذها الحصري على العراق. هناك أيضا ما يمكن اعتباره مكدرات لهذه العلاقات من الجانبين بعد أن أعادت السعودية فتح سفارتها في بغداد عام 2015 وعينت ثامر السبهان سفيراً لها. لم يحدث حينها، بعد عودة السفارة، اختراق يذكر في الغيمة الكثيفة للخلافات بين البلدين، بل على العكس من ذلك أبدت بغداد عدم ارتياحها لوجود السبهان وانزعاجها من تصريحاته التي اعتبرتها، بحسب قولها، تصريحات تغذي الفتنة الطائفية وتعتبر تدخلاً في شؤون العراق الداخلية؛ إلى أن طلبت الحكومة العراقية من المملكة تغيير السفير ثامر السبهان فغادر منصبه وعين العميد عبدالعزيز الشمري قائما بالأعمال خلفا له. من الجانب السعودي كانت المكدرات للعلاقة مع بغداد، ما قبل 2017، تهدد أي رغبة من جانب المملكة في تعاون الدولتين الجارتين واستقرارهما في إقليمهما الملتهب. على سبيل المثال، إذا تجاوزنا هجوم نوري المالكي وإساءاته المعروفة للمملكة، كانت هناك تصريحات علنية لقيادات الحشد الشعبي بالزحف على المملكة وإسقاط نظامها، ثم إطلاقها اسم نمر النمر، الذي أعدمته المملكة في يناير 2016 بتهمة الإرهاب، على بعض كتائبها التي شاركت في معركة الموصل. كذلك كانت تصريحات بعض المسؤولين العراقيين وقادة الميليشيات الشيعية تصب المزيد من الزيت على نار الخلافات بين الدولتين. ومن أبرز من أطلق تصريحات نارية ومسيئة للمملكة وزير الخارجية الدكتور إبراهيم الجعفري ووزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، الذي كان قبل توليه حقيبة الداخلية أحد قادة ميليشيا بدر وتربطه علاقة معروفة بقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. مع هذا الوضع المعقد من الخلافات والمكدرات لم يكن أحد يتوقع أن تتسارع وتيرة تطوير العلاقات بين البلدين، وأن تصل، في أقل من سنة، إلى هذه الدرجة من التنسيق وإلى هذه الحميمية التي بدت واضحة في خطابي خادم الحرمين الشريفين ورئيس الوزراء العراقي أثناء رعايتهما حفل توقيع اتفاقية مجلس التنسيق السعودي العراقي. بل وبدت، أيضا، في ردود الفعل على المستوى الشعبي في البلدين أثناء الزيارة الأخيرة وتوقيع اتفاقية المجلس التنسيقي. لكن يبدو أن ما لم يتوقعه أحد فرضته الدوافع السياسية والاقتصادية التي كانت في نهاية المطاف أقوى من كل خلاف وأقوى من النفوذ الإيراني على قرار الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي. في الدوافع السياسية بالنسبة للمملكة عكس مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض توترا كبيرا في العلاقات الأميركية الإيرانية. ومثل ذلك فرصة لحضور السياسة السعودية في العراق، لا سيما وأن الجوار الجغرافي والمصالح المشتركة ومكانة المملكة في العالم العربي تؤمن هذا الحضور السياسي في بغداد ولدى حكومة العبادي الراغبة، لمصلحة العراق والعراقيين، في الانفتاح على الدول العربية. ومع ذلك لا تأمل السعودية كثيرا في تغيير المشهد العراقي، لكنها تأمل على الأقل بحدوث تغيير ولو محدود في الخريطة السياسية العراقية يؤدي إلى تعاون البلدين في حدود الممكن بدلا من قطيعتهما التي تهدد استقرار كلتا الدولتين. أما الدوافع الاقتصادية فتبدو أكثر من جانب بغداد، فالعراق المثقل بملفات إعادة الإعمار يعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية وانعكاس هذا التدهور على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. أيضاً عانى العراق من النتائج السلبية على اقتصاده جراء إغلاق حدوده مع المملكة ومع سوريا نتيجة للتدهور الأمني على هذه الحدود خلال السنوات السابقة. ومن الطبيعي لحكومة عراقية راغبة وجادة في تغيير المشهد الاقتصادي والاجتماعي في العراق، أن تراهن على تطوير علاقاتها مع المملكة لتحقيق نتائج اقتصادية إيجابية، وأن تراهن كذلك على دور المملكة في إعادة الإعمار والاستثمار، وها هي السعودية هذه الأيام تشارك بجناح ضخم يضم ستين من أكبر شركاتها في معرض بغداد الدولي، وقد خُصّ المشاركون السعوديون في هذا الجناح بحفاوة واستقبال كبيرين من العراقيين. إذن في ظل هذين الدافعين القويين، الدافع السياسي والدافع الاقتصادي، يمكن تفسير سرعة تنامي العلاقات السعودية العراقية في الأشهر الأخيرة وتجاوزها العديد من الأسلاك الشائكة التي طالما أحدثت جروحا وندوبا عند الطرفين. لكن إذا عدنا للسؤال الذي بدأت به هذا الموضوع فإن من الصعب الجزم الآن بتصفير الخلافات والمشكلات بين بغداد والرياض. كل ما هنالك أن البلدين أخذا نفسا عميقا وغلبا مصلحتهما العليا على قطيعتهما وخلافاتهما، وهو ما يؤمل أن يستمر ويتطور، وأن تنتقل عدواه الإيجابية إلى كل الدول العربية. كاتب سعوديمحمد العصيمي
مشاركة :