في مقدمة التصورات السائدة في فكرنا العربي المعاصر، تصور دور تاريخي رائد لطليعة أيديولوجية، ثقافية أو طبقية أو قومية أو إسلامية تتولى تحويل المجتمع العربي نحو الليبرالية أو الاشتراكية أو الوحدة القومية أو «المجتمع المسلم الذي فقد وجوده منذ قرون» بتعبير سيد قطب. على هذه الخلفية آمن طه حسين الذي عرّفه أستاذه دوركهايم إلى أفكار سان سيمون السياسية ودور «النخبة المثقفة» في تحقيق الحكم العادل، بأن عبئاً خطيراً من أعباء الثورة في وطنه مصر، إنما يقع على عاتق المثقفين والعلماء الذين عرفوا تجارب الأمم وحقائق العلم. من المنظور إياه، أوكلت أطروحات النقد الثقافي التي عرفها الفكر العربي منذ سبعينات القرن الماضي، دوراً مركزياً للطليعة المثقفة، إذ هي، وفق هذه الأطروحات، خط الدفاع الأمامي عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، والمعول عليها في التحرير القومي والسياسي والاجتماعي، حتى إن «صلاح حالنا مرتبط بصلاح حال مثقفينا» بتعبير عبدالله العروي. متأثراً بالعروي، ذهب ياسين الحافظ إلى أن الطليعة المثقفة هي التي ستقود عملية التغيير الثوري، وأنها قادرة على إنجاز الثورتين الاشتراكية والليبرالية معاً، من دون التفريط بإحداهما، شارطاً أن تتبوأ «الطبقة العاملة» موقعاً قيادياً في التوحيد القومي. على المنوال ذاته، تصور ميشال عفلق أن الوحدة العربية رهن بانقلاب جذري تضطلع به نخبة طليعية بعثية «تتقدم لتمثل الشعب قبل أن يفوضها الشعب تفويضاً صريحاً، وتتجه إليه لتوقظه على واقعه... وبإمساك الطليعة البعثية بناصية الأمة يحدث الانقلاب وتنصهر الأمة روحياً». ولم يحد تصور سيد قطب عن هذا المنحى في إسناد مهمة تحويل المجتمع إلى طليعة أيديولوجية، فقد دعا إلى تأسيس قيامة جديدة للمجتمع المسلم على أيدي طليعة مختارة شبيهة بالصحابة، على أمل إعادة إنتاج الأمة وتأسيس المجتمع المؤمن وإطلاق الدعوة من جديد. كذلك راهنت الحركة الشيوعية العربية على «طليعة» تمثلت عندها في «الطبقة العاملة» التي أسندت إليها كل المهمات الجذرية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وقومياً، من ذلك مهمة إلغاء القهر الطبقي، وتحقيق العدل الاجتماعي، والتمهيد لوحدة العرب القومية من خلال توحيد الطبقات العاملة العربية. لكن الرهان على مقولة «الطليعة» لم يكن سوى رهان خائب على كل المستويات. فالليبرالي طه حسين لم ينفق بعد عودته شهوراً، كما يقول «حتى تبيّن أنه كان واهماً، وأن العلماء والمفكرين يتأثرون بالجماعات التي يعيشون فيها، فيخطئون مثلها ويصيبون». يلخص موقف طه حسين حال الإخفاق الذي أناخ ولا يزال على الذين انطلقوا من مقولة «الطليعة» في بناء تصوراتهم الأيديولوجية. فـ «الطلائع القومية» انتهت طلائع للديكتاتورية وتجذير الشروخ والانقسامات الأقلوية التي أنهكت الأمة، والطلائع الاشتراكية انكشفت عن طلائع للبؤس المتعاظم والفقر المستشري، و «الطلائع الإسلاموية» لم تكن سوى كارثة اجتماعية وإنسانية أعادت الإنسان العربي إلى ما هو أدهى من الجاهلية التي ادعت تحريره منها، و «الطلائع الثقافية» خلصت إلى مساءلة المثقف لتاريخه وموقعه والدور الذي أناطه لنفسه. آية كل هذا الانسداد التاريخي الذي آلت إليه مقولة «الطليعة» كامنة في أنها وفدت إلى الفكر العربي من خارج سياقه جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، لذلك ظلت قيد الدرس والمراجعة والمساءلة، بقيت نبتاً غريباً في مجتمعات لم تتقبلها ولم تصغِ إلى خطابها ولم تتبنَّّ تصوراتها. فالطلائع لا تختصر المجتمع ولا تشكل بدائل لتوجهاته وسيرورته التاريخية، وإن لم تخاطب وجدانه وثقافته وتاريخه لن تتسم قيادته ولن تدفعه في الاتجاه الذي تريده. لعل ذلك بالذات ما أبقى أيديولوجيي «الطلائع» أسرى أيديولوجياتهم النخبوية والأقلوية والرومانسية التي لم تقدم المجتمع العربي قيد أنملة في تحقيق أهدافه التاريخية في الوحدة أو الحرية أو الاشتراكية، أو إعادة الأمل إلى الإنسان العربي، على الأقل، في استعادة شيء من مجده الغابر. * كاتب لبناني.
مشاركة :