عن السجال الثقافوي في فكرنا المعاصر

  • 2/17/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

ردّ الظواهر الاجتماعية والتاريخية الى علل ثقافية، دينية أو فطرية أو نفسية، منطق ثقافوي أحادي مبسّط، تم على أساسه ترسيخ أزعومة تفوّق أوروبا حضارياً وقابليتها الفطرية للتقدم، وفرادة نموذجها الحداثي وتميزه، على الضد من بقية الأمم المحكوم تاريخها بالقصور والاستبداد والتخلف. أسس هذا المنطق بالذات لأطروحات مونتسكيو ورينان ونيتشه ودارون، فقال مونتسكيو بملاءمة الاستبداد للشرق، وقال رينان بعداء العرب والمسلمين للعلم، وميّز نيتشه بين ثقافة أقوياء أو سادة وثقافة منحطين أو عبيد، وحصر دارون قابلية التقدم بأجناس وأعراق دون سواها. في كل الحالات، تقدم الأمم والشعوب او انحطاطها رهن بعوامل ثقافية، في مقدمها العامل الديني. ومن هذا المنطلق، أُسس حراك التاريخ على خلفية دينية، فرُدّ صعود الرأسمالية وانتصارها الى الأخلاق البروتستانتية، واعتبر الإصلاح الديني عودة الى المسيحية، والنظام الديموقراطي عودة الى الديموقراطية الأثينية، أما التسامح والإنسانوية والعلمانية فأفكار تنهل مواردها من تعاليم المسيحية وتستعيد تعاليمها. هذا المنطق الثقافوي لم يكن غريباً عن فكرنا المعاصر الذي تميز عموماً بمنحيين أيديولوجيين رئيسيين، أعطى أحدهما الأولوية للعوامل المادية والاقتصادية، فيما قدم الآخر العوامل الثقافية، مفسّراً بها وحدها الظواهر السياسية والاجتماعية كافة. على هذه الخلفية، قامت مشاريع النقد الثقافي العربية التي اعتبرت الثقافة مكمن العلة في المأزق النهضوي العربي المعاصر، حيث توجه عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وأدونيس وياسين الحافظ وهاشم صالح وغيرهم الى نقد البنية الثقافية العربية، الأساس الفعلي للمحنة الحضارية العربية. ففي الأيديولوجيا، يجب البحث عن أسباب التخلف والهزيمة، وفيها وبها وحدها نجد الإجابة عن السؤال النهضوي المزمن: «لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون؟»، إذ ثمة عوامل ثقافية كامنة في العقل العربي ونمط تصوراته في شأن الإنسان والتاريخ، تقف وراء هزيمتنا المتمادية، وما لم تواجه بثورة ثقافية هي الأخرى، لا يمكن أن تنهض الحياة العربية أو أن يتحول الإنسان العربي الى الإبداع، فمن نقد العقل العربي الإسلامي بلغة الجابري وأركون وأدونيس، أو تحرير الروح العربية بلغة صالح، أو نقد الأيديولوجيا السائدة بلغة الحافظ، يبدأ التحول العربي باتجاه مجتمع الحداثة. إلا أن التأويل الثقافوي لا يغيب التأويلات الأخرى في فكرنا العربي، الاقتصادية والسياسية والمادية، فقد طرحت الأيديولوجيا الماركسية الاقتصاد شرطاً للوحدة القومية، مقدمة العوامل الاقتصادية على العوامل الثقافية. ومن منظور سياسي للمعرفة، نظر الى التفكير والمذاهب الفلسفية والعقائد والأخلاق والوعي الديني، باعتبارها عمليات ذات مضمون سياسي، ما يعني أن العقل ليس مستقلاً وقائماً في حد ذاته بقدر ما هو متورط في خدمة الأهداف السياسية، فمشكلتنا هي أولاً، وفق ياسين الحاج صالح، مشكلة سياسية، لأن النظام السياسي هو الذي يشكل الوعي الديني والأخلاق والتربية. كذلك، يجادل سمير أمين في صحة الطرح الثقافوي انطلاقاً من المادية التاريخية، مغلباً العوامل المادية والتاريخية على العوامل الثقافية والروحية، من دون أن يتجاهل أثرها في الواقع الاجتماعي، فالإصلاح الديني والتقدم والحداثة والعلمانية لا تفسر بالدين والميتافيزيقيا، بل هي نتاج حركة الحداثة التي فرضت إعادة تأويل الدين، انطلاقاً من أن الكائنات الإنسانية هي التي تصنع تاريخها، ومن أن العوامل المادية هي التي تفسر التاريخ بما هي العوامل المحددة، وعليه، كانت إعادة التأويلات الدينية، في رأي أمين «نتاج مقتضيات التحول الاجتماعي لا سبباً له». لا يتفرد أمين في دحض الطرح الثقافوي، فهذا الطرح البعيد الجذور في فكرنا المعاصر يضمر موقفاً استشراقياً استعلائياً، مبدياً قدرة على الاستمرار في شكل وفي آخر منذ محاضرة أرنست رينان في الكوليج دو فرانس في 1883، في تخلّف العرب والإسلام، الى أطروحات فوكوياما وهنتنغتون آخر القرن العشرين في صراع الحضارات ونهاية التاريخ، وقد لقي نقداً تاريخياً وأيديولوجياً كشف زيف أطروحاته، من جرجي زيدان في «تاريخ التمدن الإسلامي» الى جورج طرابيشي في «نقد نقد العقل العربي» الى سمير أمين وجورج قرم وسواهم. أما أوجه الزيف في النقد الثقافوي فتتحدد كما نرى في: أ – ليس صحيحاً أن التقدم سمة أوروبية فيما التخلف سمة العرب والمسلمين، فقد أثبت التاريخ مساهمات هؤلاء في الحضارة الإنسانية، كما أثبت حقباً من الانحطاط المديد في التاريخ الأوروبي. ب – القول بـ «عقل عربي» ذي سمات ثابتة يدحضه الواقع التاريخي ومسار التطور المعرفي المعولم الذي وحّد أو كاد، أولويات التفكير والرؤية. ج – حصر التغيير والتحول بالثقافة مجافٍ للحقيقة، فكيف سيضطلع المثقف بهذه المهمة فيما هو مجرد من الفاعلية في عالم عربي تتضاءل فيه شيئاً فشيئاً إمكانية الوصول الى رأي عام محاصر بالأمية وبالأيديولوجيا الأصولية. من هنا، فإن التحول التاريخي المنشود لا يمكن أن يكون في رأينا إلا نتيجة تطوّر عام في بنية المجتمع العربي اقتصادياً وعلمياً واجتماعياً وسياسياً، تطور يضطلع به المجتمع بأسره، ويفرض مراجعة كل أطروحات النقد الثقافوي ووضعها بدورها واحدة واحدة موضع التفكيك والمساءلة.     * كاتب لبناني

مشاركة :