استقال رئيس الحكم شبه الذاتي في كردستان العراق، مسعود بارزاني، الأحد الماضي، بعد شهر واحد من تنظيمه استفتاء فاشلاً على الاستقلال عن العراق، ما أغضب بغداد وقوى إقليمية أخرى، وبدّد آمال شعبه في العيش في وطن مستقل. وتعتبر استقالته من أحدث تداعيات الاستفتاء، الذي وضع العراق على حافة الحرب الأهلية، وغيّر ميزان القوى في البلاد، وهزّ الوضع السياسي في المنطقة التي تتمتع بحكم شبه ذاتي. - ظل بارزاني يستخدم الدهاء والصبر، من أجل أن يظل الكيان الكردي على قيد الحياة، خلال السنوات الطويلة من الوحشية التي عاناها الأكراد تحت حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين. - لم يعتذر بارزاني عن الاستفتاء، الذي عارضته واشنطن ومعظم القادة الدوليين، إنما ألقى باللائمة على ما وصفه بالخيانة من قبل زملائه الأكراد، وتغيرِ ولاءِ حلفائه الأميركيين له، وهم الذين ساعدوه على تدريب وتسليح قواته من أجل الثروات الكردية. حياة حافلة بالكفاح ولد بارزاني في عام 1946، بعد وقت قصير من تأسيس والده حزباً من أجل نيل الأكراد العراقيين حقوقهم. وتأثر بشدة بوالده، الملا مصطفى بارزاني، المعروف باسم «أسد كردستان»، وانضم مسعود بارزاني إلى مجموعة حرب العصابات الكردية، المعروفة باسم «البيشمركة» في سن 16، واكتسب خبرة في القتال في الجبال. ظلّ الملا مصطفى يقاتل ضد بغداد مدعوماً من شاه إيران الموالي للغرب، لكنه تعرض لمأساة، عندما عقد وزير الخارجية الأميركي آنذاك، هنري كيسينجر، اتفاقاً يسمح لصدام بسحق التمرد الكردي. خلال الحرب العراقية الإيرانية 80-1988، تحالف مسعود بارزاني، بعد أن ورث رئاسة الحزب الديمقراطي الكردستاني من والده، مرة أخرى مع طهران. ولم يسر هذا التحالف على ما يرام. وطوقت حكومة بغداد نحو 8000 رجل من قبيلة بارزاني، وتم عرضهم عبر شوارع بغداد قبل إعدامهم، الذين «ذهبوا إلى الجحيم». على غرار عبارات صدام حسين. وعلى الرغم من المذابح والهجمات الكيماوية العراقية، ظل بارزاني يحتفظ بقدر كافٍ من القوات، ليستجيب لنداء الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، بالثورة على الحكومة العراقية بعد حرب الخليج عام 1991. وأخذ الأكراد نداء بوش على محمل الجد، لينتفضوا ضد صدام حسين، وهبط بارزاني ورجاله المعروفون بعبارة «أولئك الذين يواجهون الموت»، من الجبال للانضمام إلى الانتفاضة، والاستيلاء على مدن عدة في الشمال. إلا أن الحلفاء المنتصرين رفضوا احتمال انشقاق كردستان عن بغداد، ولم يفعلوا شيئاً لوقف قوات صدام وطائرات الهليكوبتر الحربية من سحق التمرد. وفي حين فرّ أكثر من مليون كردي إلى تركيا وإيران، ومات الكثير منهم من الجوع والتعرض للقتل في الطريق، ظل بارزاني يقاتل بشراسة. وأنقذته منطقة حظر الطيران التي أنشأتها أميركا وبريطانيا في شمال العراق في عام 1991، وساعدته هو ومنافسه الكردي، جلال طالباني، على استعادة المنطقة. ويشكل خروج بارزاني من مسرح الأحداث السياسية للإقليم مأزقاً للأكراد الذين سيفتقرون إلى الموجه في مستقبل منعدم الرؤية، بعد أن فقدوا قبل فترة قصيرة زعيماً آخر هو طالباني. ويعتقد أكثر من مراقب أن الزعيم الكردستاني، بعد عقود من الصراع والمكاسب السياسية التي حققها لشعبه، ارتكب أحد أكبر أخطائه، عندما دفع للأمام يوم 25 سبتمبر الماضي، بإجراءات الاستفتاء للاستقلال عن العراق، رغم معارضة قوى دولية وإقليمية، ما بدد آمال شعبه، وذهب بطموحاتهم أدراج الرياح. وصوّت الأكراد بأغلبية ساحقة من أجل الاستقلال، لكنهم لم يحظوا بتعاطف يذكر خارج منطقتهم. وبالإضافة إلى الحكومة العراقية، هدّدت كل من تركيا وإيران باتخاذ تدابير قاسية ضد أي تحرك نحو الانفصال عن العراق، خشية أن تشجع هذه الخطوة المواطنين الأكراد المنتمين إلى هاتين الدولتين بأن يحذو حذو بني جلدتهم في كردستان العراق. وانضمت الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية إلى جوقة معارضة الاستفتاء، ووصفت حكومة بغداد هذه الخطوة بأنها غير قانونية، وأرسلت جنودها للاستيلاء على كركوك الغنية بالنفط، والتي ينظر إليها الأكراد بوصفها قلب أي وطن مستقبلي. وفي غضون ساعات قليلة، فقد الأكراد المدينة التي يعتبرونها مقدسة، جنباً إلى جنب مع أراضٍ أخرى كانوا يسيطرون عليها في جميع الأنحاء الشمالية. واتهم بعضهم بارزاني بأنه قاد شعبه إلى كارثة. وظل بارزاني يستخدم الدهاء والصبر من أجل أن يظل الكيان الكردي على قيد الحياة، خلال السنوات الطويلة من الوحشية التي عاناها الأكراد تحت حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين. وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للإطاحة بصدام في عام 2003، أصبح بارزاني شخصية محورية في مسيرة الأكراد لإقامة دولة مستقلة خاصة بهم في شمالي العراق. وحافظ القادة الأكراد على منطقتهم خالية نسبياً من حمّامات الدماء الطائفية التي انتشرت في جميع أنحاء العراق، وتدفق الباحثون عن النفط إلى المنطقة سعياً لتعاقدات مربحة. وفي أول خطاب علني له منذ النكسة التي أصيب بها الإقليم، قال بارزاني، الذي ظل رئيساً للمنطقة لأكثر من 10 سنوات، إنه طلب من البرلمان عدم تمديد فترة رئاسته لما بعد الأول من نوفمبر الجاري. وصرّح مصدر مقرّب بأن بارزاني لا يرغب في الاستمرار في ممارسة أي دور سياسي في المستقبل. ويعتقد بعض النواب العراقيين أن استقالة بارزاني، قد تمهد الطريق لتخفيف التوتر بين بغداد وأربيل. ويقول النائب السنّي في البرلمان الاتحادي من مدينة الفلوجة، خالد العلواني، إن «استقالة بارزاني هي بمثابة اعتراف غير مباشر بخطئه في تنظيم الاستفتاء ضد إرادة الآخرين»، وكثيراً ما كان بارزاني يتحدى بغداد، ويصفه سياسيون آخرون بأنه متصلب أو لا يقبل التنازل. ويبدو أن الانقسامات بين الأكراد التي قد تتمخض عن استقالة بارزاني ستقوض الجهود الرامية إلى التوافق مع بغداد. وفي إشارة إلى مدى تأثير بارزاني في التوجهات السياسية في الإقليم اجتاح مؤيدون له البرلمان خلال إحدى الجلسات المخصصة للتصويت على قانون بشأن إعادة توزيع سلطات مكتبه، بعد أن وجه له العديد من البرلمانيين انتقادات لاذعة. لم يعتذر بارزاني عن الاستفتاء، الذي عارضته واشنطن ومعظم القادة الدوليين، إنما ألقى باللائمة على ما وصفه بالخيانة من قبل زملائه الأكراد، وتغيرِ ولاء حلفائه الأميركيين له، وهم الذين ساعدوه على تدريب وتسليح قواته من أجل الثروات الكردية. وقال إنه على الرغم من تركه الرئاسة، فإنه لن يستقيل من السياسة، وسيظل نشطاً في الدفع من أجل إقامة الدولة الكردية. وأضاف «أنا واحد من البيشمركة، وسأواصل القيام بكل ما هو مطلوب مني، وسأكون مع شعبي في نضاله من أجل الاستقلال»، في إشارة إلى مجموعة المقاتلين الأكراد (البيشمركة)، الذين تحولوا من مجموعة حرب عصابات في ثمانيات القرن الماضي ضد صدام حسين، إلى وحدات أمن مدربة تدريباً عالياً، كانت حتى الشهر الماضي صمام الأمان للحكم شبه الذاتي الكردي. اللهجة العدوانية التي تحدث بها بارزاني جاءت بعد أسابيع من خسارة المقاتلين الأكراد في ميدان المعركة ضد القوات الحكومية التي أرسلها رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، لطرد المقاتلين الأكراد من كركوك، انتقاماً من الاستفتاء الذي نظمته كردستان، وفقدت الحكومة الكردية السيطرة على أصولها، والعديد من حقول النفط الرئيسة، وتعرضت لعزلة دولية كاملة تقريباً. هذه الانتكاسات أثرت بشكل حاد في موقف الأكراد في مفاوضاتهم مع القادة العراقيين. وقد انعقدت محادثات بين الجانبين، بوساطة ضباط عسكريين أميركيين، بعد أن أعلن العبادي إنهاء العمليات العسكرية بشكل مؤقت، والتي تهدف للاستيلاء على المعابر الحدودية مع تركيا وإيران وسورية. وروت مصادر مقربة من المفاوضين أن بغداد على وشك التوصل إلى اتفاق مع القادة الأكراد، تستطيع القوات الاتحادية بموجبه تولي أمن المعابر الحدودية، وتعديل الطريقة التي يتم بها تصديرها النفط من المنطقة، والذي يعتبر مصدر دخل مهم يعتمد عليه حلم منطقة شبه الحكم الذاتي في الاستقلال بنفسها.ومن شأن هذا الاتفاق أن يكون أكبر تراجع في الحظوظ السياسية الكردية منذ أن نالت المنطقة حكماً ذاتياً من بغداد، بعد حرب الخليج عام 1991. استقالة بارزاني، الذي لم يسمِّ خلفاً له، تترك سؤالاً يبحث عن إجابة - من الشخص، سواء كان ينتمي إلى الحزب الديمقراطي أو الأسرة الكردستانية ـ الذي لديه سلطة الموافقة على مثل هذا الاتفاق؟ خدم بارزاني فترتين رئاسيتين، مدة كل منهما أربع سنوات، وهو الحد الأقصى المسموح به بموجب القانون الكردستاني. وحصل على تمديد لمدة عامين في عام 2013، بسبب المخاوف الأمنية الناجمة عن صعود تنظيم «داعش» في المنطقة، لكنه ظل في السلطة بعد ذلك بكثير من دون مبرر قانوني. ومنذ توليه الرئاسة في عام 2005، أمسك بارزاني بجميع السلطات بيده، وعين أفراداً من أسرته في مناصب قيادية حسّاسة، من بينهم ابن أخته، الذي عيّنه رئيس وزراء منطقة الحكم شبه الذاتي، وعهد لابنه بجهاز أمن المنطقة. وفي الوقت الذي كانت الحملة ضد «داعش» تدخل مراحلها الأخيرة، أصرّ بارزاني على إجراء الاستفتاء، على الرغم من اعتراضات بغداد وقوى إقليمية والولايات المتحدة، وبعض شركاء الإقليم. وقد حذّر معارضو الاستفتاء من أن التصويت سيعزل الأكراد، وينفّر حلفاءهم منهم، ويؤلب عليهم أعداءهم. ليس أمام الأكراد الآن سوى التفاوض بخيارات قليلة مع بغداد بشأن قضايا مهمة. وهذا الموقف هو الأضعف منذ احتلال الولايات المتحدة الأميركية العراق عام 2003، وهو الوقت الذي بدأت فيه منطقة شبه الحكم الذاتي تزدهر وتنمو، لتصبح لاعباً قوياً في السياسة العراقية والشرق أوسطية. وفي الوقت نفسه، كشف فشل الاستفتاء الانقسامات العميقة والطويلة الأمد بين الأحزاب السياسية الكردية الرئيسة، ما قد يعقد أي مفاوضات مستقبلية مع بغداد. وتدور تكهنات بأن رئيس حكومة الإقليم، نيشيرفان بارزاني، سيكون الشخص الذي سيتولى مقاليد الرئاسة، وينظر إليه على أنه كان أقل حماسة للاستفتاء، ويمكن أن يصبح عاملاً مهماً في إصلاح ذات البين بين أربيل وبغداد. ويقول الزميل بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بلال وهاب، «إن السبيل الوحيد لخروج حكومة إقليم كردستان من هذه الهزيمة، هو التفاوض، ولا أعتقد أن تركيا وإيران وبغداد على استعداد للتفاوض مع مسعود بارزاني»، ويضيف «نيشيرفان بارزاني هو الشخص المناسب، لأنه كان الأقل حماسة في دعمه للاستفتاء، وأن علاقته مع بغداد وتركيا أقل عدائية».
مشاركة :