مصالحة من أجل المصالحة، مصالحة من أجل المفاوضات، مصالحة من أجل المصالح الشخصية، مصالحة الشخصيات السلطوية من أجل ما يربطها زبائنياً، مصالحة من أجل اكتمال عقد الانقسام. مصالحة من أجل التمهيد لما اسمي «صفقة القرن»، مصالحة من أجل ماذا بالتحديد؟ واستجابة لأي مصلحة وطنية عامة مشتركة، بات يتطلبها وضع الفلسطيني العادي في كل من غزة والضفة الغربية والقدس، وليس استجابة لقراءات سلطوية على جانبي سلطة الانقسام والمصالح إقليمية ودولية كانت العنصر المباشر العابث، الباعث على تأكيد الانقسام وتشجيعه، وها هي تلك المصالح ذاتها، تنتقل إلى النقيض، مشجعة على إعادة تماسك شقي الوضع السلطوي الفلسطيني ونظامه السياسي، لأهداف وغايات خاصة، قد لا يكون من بينها أي أهداف وطنية عامة تخص المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني كشعب واحد موحد في كافة أماكن وجوده، وما تقتضيه طبيعة القضية الوطنية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، واجب القائمين عليها تحسس مسؤولياتهم الوطنية في كل وقت، وليس في أوقات «الطلب الخارجي» موسمياً، على ما تطلبت وتتطلب مسألة المصالحة الآن. ألا ليت المصالحة تكون من نصيب تلك القواعد الراسخة التي قام عليها المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أضاع أصحابه الطريق إليه، استجابة لأغيار «المشروع التهويدي»، ولمتطلبات «صفقة القرن» التي يجري التمهيد لها بالبحث عن سبل استئناف المفاوضات مجدداً، وليس من حيث انتهت جولاتها في السابق، وذلك في سياق البحث عن حل إقليمي برعاية الإدارة الترامبية، الأكثر التزاماً بمشروع اليمين الإسرائيلي المتطرف، ولأجل استعادة تربيط وترابط وضع إقليمي، لا تستطيع أطرافه سوى العيش في ظلال التبعية وفي فيئها. مرة أخرى جديدة، لا ينبغي الركون للأوهام السياسية، فقد أثبتت خبراتنا المتراكمة طوال أعوام الصراع، ومعها سنوات الضياع التسووي تفاوضياً، أن كل ما رعته وترعاه الإدارات الأميركية المتعاقبة، لم يكن سوى وهم الكلام؛ كما كل ما بادرت إليه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كذلك، وما لم تبادر إليه، ما كان وسيكون سوى لغو الكلام ورغائه، وهذا يعد في السياسة من «عبث الفاعلين» لا من «عبث الأقدار»، إلا إذا كانت الأوهام باتت من طبيعة لا تفارق أصحابها في «إيمانهم» وإدمانهم تصديق ما ليس يصدق، من وعود وعهود لا تتوافق بالضرورة مع مصالح عدو يقوم مشروعه على سلب ونهب واقتلاع كل ما للغير، فأين هي مصالح الشعب الفلسطيني الوطنية، وكيف يمكن التوافق والاتفاق معها ولأجلها من أجل استعادتها؟ لهذا ما لم تكن المصالحة استجابة لحاجات وضرورات وطنية فلسطينية، لا فئوية أو فصائلية سلطوية، أو مجاراة لهذا الطرف الإقليمي أو الدولي، لا سيما أن الإسرائيليين لا يرغبون باستعادة الوضع الوطني الفلسطيني؛ لا لوحدة قواه السياسية، ولا لعودة التئام الجغرافيا الفلسطينية، نظراً لما قد يرتبه عليهم ذلك من تنازلات، وتغيير في معادلات قامت وتقوم عليها أيديولوجيا اليمين المتطرف الاستيطانية العنصرية، من عدم ملاءمة المفاوضات أو ما يسمى بـ «عملية السلام» لتلك الأيديولوجيا وتجسيداتها كما هي اليوم على الأرض... وكما يرى نتانياهو بحسب موقع صحيفة (هآرتس)، فإنه «يتوقع من كل من يتحدث عن «عملية سلمية» ويريد أن يصنع صلحاً معنا أن يعترف بدولة إسرائيل كدولة يهودية»، بمعنى تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني والتخلي عن كل أشكال الكفاح المشروعة والطبيعية في مواجهة الاحتلال، وضمن ذلك الاستجابة للإملاءات الإقليمية والدولية والاستجابة غير المشروطة لشروط الرباعية الدولية، بما حوته وتحويه من إملاءات إسرائيلية واضحة، أعاد نتانياهو تأكيدها مجدداً في حديثه عن المصالحة الفلسطينية قبل أيام. عموماً وبعيداً من التفاصيل وآليات المصالحة الداخلية، لا يبدو أن الاتجاه العام لاستهدافاتها سوف يركز على المسائل والقضايا الداخلية الوطنية لأطرافها، ولا حتى لطرفيها الرئيسيين، بقدر ما تحمل من أوهام المفاوضات الثنائية أو الإقليمية وتحت إشراف دولي، وما قد تسفر عنه من دق لأسافين جديدة في مسيرة تسوية يريدها الجميع ما عدا إسرائيل ومن يشد من أزرها، في فلسطين وفي الإقليم وفي المحافل الدولية. وتلك وصفة لإفشال المصالحة مرة أخرى وجديدة، حين يخلو الجو من صفاء النيات وصدق السرائر وثبات المواقف؛ الأمر الذي يؤكد أن المصالحة الجادة والحقيقية، يتطلب قيامها حل جميع الإشكالات الداخلية أولاً وبموضوعية، وبكل نزاهة وتجرد، والتعاطي مع غزة والضفة والقدس كوحدة جغرافية وسياسية واجتماعية واحدة، وذلك على قاعدة عقد جديد من الشراكة الوطنية، عقد وطني سياسي واجتماعي ملزم لجميع أطراف النظام السياسي، نزولاً عند شرط الضرورات الوطنية، لا خضوعاً لشرط الإملاءات والرغبات الخارجية، إقليمية أو دولية. * كاتب فلسطيني.
مشاركة :