انطلقت الناقدة التونسية زينة الشامي في ندوتها "كيف تقرأ الرواية؟" والتي أقيمت ضمن البرنامج الثقافي لمجالس مؤسسة بحر الثقافة بمدينة أبوظبي وأدارتها الروائية آن صافي، من طلب الوزير ابن سعدان من الأديب أبو حيان التوحيدي في الليلة الخامسة والعشرين من ليالي مجالسه" أحب أن أسمع كلاما في مراتب النظم والنثر فكان ردّ الأديب المبدع في كتابه الإمتاع والمؤانسة:"إنّ الكلام على الكلام صعب". وقالت أنّ النقد (وهو الكلام على الكلام) يبدو في الظاهر عملا متاحا سهلا لكنه في الواقع أمر جلل، لا لأنّه فعل مستحيل بل لأنّ البحث عن المتعة والمؤانسة، وهما أمران متلازمان، يحتاج الى توفر جملة من الشروط، لعل أهمها أن نجعل من قراءة الرواية متعة لا إسقاطا لمناهج وقهرا للنص حتى يناسبها وليست شرحا جامدا لألفاظ الرواية وبنيتها ولا محاسبة لنوايا مبدعيها. رأت الشامي أنّ النص الروائيّ بعد ولادته وخروجه إلى الناس يخرج من ملكية صاحبه ويصبح أمرا مشاعا بينهم. يتحرر من سلطة المبدع ويصبح بين أيدي قراء مجهولين متعددين. ومن ثم فإن أركان الإبداع مثل الرواية هي ثلاثة: أولا: مبدع ينشئ نصه ويلقيه بين أيدي أناس مجهولين في سياقات ثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية متفاوتة، وقد يضع لنفسه أهدافا معينة وتصورا لرسالة معينة يوجهها من باب أنّ الإبداع هو رسالة: "المنفلوطي/الأخلاق"، "جرجي زيدان/التاريخ"، "غادة السمان/المرأة"، "أليف شافاق/الأقليات"، وقد لا يضع أهدافا دقيقة فيتجرد من ضيق الالتزام بقضايا غير قضايا الفن وشواغل الذات المبدعة. ثانيا: نصّ واحد يوضع بين جمهور متعدد. والرواية إن شئنا تعريفها قلنا هي كائن لغوي يقص حكاية لها شخصياتها وأزمنتها وأمكنتها (أي لها سياقاتها الثقافية والاجتماعية والنفسية)وحبكتها. وقد تكون الحكاية فيها مجرد فخ لذيذ لتوريط القارئ حتى يتابع القراءة.والرواية هي صوت الفرد المكتوم الذي يدعونا إلى أن نجد مكاننا في العالم على رأي توماس بافيل. ويهمنا التركيز على القناة الحاملة لهذا النص. ونقصد اللغة بما هي رموز وعلامات تتراوح بين الشفافية والتكثيف بين التصريح والإيحاء، بين القول والصمت، تروي لنا شيئا ما يدعونا إلى فك شيفرته. ثالثا: القارئ ودعنا نقل هنا القراء بصيغة الجمع والذي لا يراد منه مبدئيا إلاّ القراءة أي الإنصات إلى النص ومعلوم أنه لا يوجد قارئ واحد وهذا أمربديهي مرتبط بتعدد مستهلكي الأدب وتفاوتهم سنا وثقافة وتجربة في الحياة وتعدد انتماءاتهم الاقتصادية والاجتماعية ومشاربهم الفكرية وتركيبتهم النفسية وذائقتهم الجمالية إلخ. (لو سألت هنا في مجلسنا هذا عن أجمل رواية تعاملنا معها؟ ولماذا؟ لما انتهينا إلى رأي واحد). فالقارئ ليس واحدا وإن كان النصّ واحدا والمبدع كذلك. وتساءلت الشامي: هل توجد قراءة واحدة أنموذجية نطمئن لها ونعتمدها؟. وقالت أنه من البديهي أن تكون الإجابة بلا. يكفي أن نسأل أنفسنا هل قرأنا رواية بعينها القراءة نفسها في فترات من العمر مختلفة بل في الفترة الزمنية نفسها ولكن في سياقات نفسية مختلفة؟ بل ندّعي أنّ لمساقات القراءة أو ظروفها أحكامها فما قرأناه ونحن مراهقون ليس هو ما نقرؤه اليوم وإن كان النصّ نفسه والرواية التي أقبل عليها في لحظات سعادتي ليست هي الرواية نفسها التي أقرؤها وأنا في المستشفى مثلا. تعرفون أنّ الأدب عاش لفترة طويلة تحت تسلط الناقد الذي يقدم الوصفات الجاهزة التي تعطيك مفاتيح النص الأدبي. هي قراءة قاتلة لأنها شارحة للنص إسقاطية لمناهج نقدية سابقة في وجودها للنص تريد إثبات حقائق سابقة للنص ومن خارجه( كأن نقول ان هذه الرواية تعكس أوضاعا اجتماعية أو نفسية محددة أو إن صاحبها يريد أن يقول كذا، ونحاسب نواياه ونقوم مقامه في التفكير) وكثيرا ما أنكر الروائيون هذا وتذمروا من قتل إبداعهم بمثل هذه الوصفات. وقد اضطرّ بعض الروائيّين إلى الخضوع إلى سلطة النقاد وكذا الحال بالنسبة إلى القراء. وأكدت إنّ قراءة الرواية هي في الحقيقة قراءات، فمنها القراءة الأكاديمية المتخصصة والتي قد تهتمّ بالرواية من حيث أنها لغة ونصّ محكم النسيج، فتفتّت معجمها وتفكّك تراكيبها وتقف عند تفاصيل الكلم..من ذلك ما تروّج له المدارس الأسلوبية التي ترى النص الروائي بناء لغوياومنتجا كلاميا بالأساس.. ومن القراءات الأكاديمية قراءة تعنى بالمضمون دون أن تقف مطولا عند لغته فتتناول الرواية من حيث هي عرض لقضايا ومشكلات. .وهنا تتنوع المدارس وتختلف فالمدرسة الاجتماعية ترى في الرواية تصويرا لمجتمع ما وتبني قراءتها للنص كما لو كان مجتمعا حيا أمامها فتهتمّ بتفاصيل المكان والزمان والشخوص فيها على اعتبار أنها صدى له. ومن القراءات ما تروّج له المدرسة النفسية التي تحاول أن تشرّح الرواية تشريحا سيكولوجيا فتنبري لتحليل شخوصها كما لو كانت حالات نفسية وقد ترى في عقدة الرواية عقدا نفسية وفي المتخيّل إشارة إلى المكبوت عند الكاتب أو عند شخوصه أو عند المجتمع الذي أنتجت فيه.. وهي على استعداد أن تقسنها إلى الأنا والهو والأنا الأعلى. ثمّ القراءة التاريخية للنص الروائيّ التي تتعاطى معه كوثيقة تاريخية وشهادة على العصر، أو ترى فيه "سيرة ذاتيّة متنكرة " كما يقول هيلس ميلر. وكذا تتنوع المدارس وتختلف قراءاتها الأكاديمية للرواية وهي التي تحرص الجامعات وربما المدارس الثانوية على تعليمنا إياها فنمرّ بنظريات مختلفة حد التباين أحيانا ونلهث وراء منظرين من هنا وهناك فمن البنيوية إلى التفكيكية إلى التوافقية ومن بارت إلى جانيت إلى غريماس (ويا قلب لا تحزن!) وكل يرى في النصّ ما يرى بله عن القراءات الإيديولوجية التي تختزل أو تكاد الرواية في بعد إيديولوجيّ معيّن.. ونخرج من الجامعات ونحن بالكاد نذكر اسم منظر أو ملامح مدرسة نقدية. وأضافت الشامي أنه بعيدا عن القراءة الأكاديمية تطالعنا القراءة البريئة كما يحلو لبعض النقاد تسميتها وهي القراءة العادية للقارئ العاديّ الباحث عن المتعة أو ما يسميه بارت الشغف أو اللذة وهي تلك التي يسعى فيها القارئ إلى الاكتشاف والمعرفة وعيش تجربة جمالية ممتعة.. ونحن في مؤسسة بحر الثقافة نسعى إلى قراءة بين هذا وذاك لأنّ خياراتنا القرائية هي أيضا بين هذا وذاك "هذا"الاختيار الحرّ المطلق، و"ذاك" الاختيار المقيد والمدروس والمقرّر من جهةٍ غيرنا.. ولعلنا لا نختلف متى قلنا إن قراءاتنا حاولت ان تتحرر في آن واحد من سلطة الكاتب وسلطة النقاد الذين قالوا كلمتهم في عدد كبير من الروايات التي قراناها. فمن خلال تجربتنا لم تكن آراء الكاتب و مرجعياته الفكرية والثقافية والإيديولويجية هي المتحكم في رأينا، ولم يكن ما يقوله النقاد هو الموجه لمجلسنا (مثل آرائنا في المرشحين للبوكر) نحن نعيش تجربة لها خصوصية تقوم على حوار متعدد الأبعاد بين مكونات مختلفة: الرواية بثراء لغتها ومضامينها وأسلوب كتابتها، ذائقتنا بتعدد مشاربها، ثقافتنا بتنوع روافدها ومرجعياتها وتجاربنا مع الرواية كتابة وقراءة، سياق قراءتنا بخصوصيته(واقصد هنا مجلسنا، فهو مجلس متعة وإفادة، وليس فصلا دراسيا أو مجلة متخصصة نقدية نخبوية). كما أنّ تجربتنا في مؤسستنا مختلفة فنحن أمام نصّ محدد يقرأ في زمن محدد قراءة فردية جماعيّة معا.. وهي لعمري تجربة تستحق دراسة أعمق من محاضرتنا هذه. وتسألت الشامي كيف لنا أن نقرأ الرواية قراءة سريعة، متعجلين الوصول إلى خاتمة الحكاية، متلهفين إلى حل عقدة ما، مشدودين إلى حل اللغز وإشفاء غليل فضولنا ونقرؤها ببطء وتأنّ باحثين منقبين متمعنين في لغتها وبنائها وهوامشها وربما علامات الترقيم فيها؟ كيف نبرمج أنفسنا على كلّ هذه الإيقاعات المتضاربة؟كيف نرقص على أكثر من نغم دون أن نسقط؟. وقالت أن غوته صنف القراء إلى ثلاثة أصناف الأول: وهم من يستمتعون بالرواية دون تقييمها. الثاني: وهم من يقيمون أو يقومون الرواية دون أن يستمتعوا بها. الثالث: وهم من يقيمون الرواية ويستمتعون بها في نفس الوقت، وهذا الصنف هو الذي يعيد إنتاج الرواية بشكل جديد. وحتى نكون من هذا الصنف الأخير لا بد لنا من اكتساب بعض المعارف والأدوات الملائمة لكل نصّ حتى نضمن قراءة استكشافية نتعرف فيها على محيط النص ونقرأ فيها الرواية قراءة داخلية ثم قراءة خارجية.. أولا المحيط النصي: وهو ما تكشفه لنا الملامسة الأولى للكتاب مثل العنوان ومدلولاته، صورة الغلاف ودلالة الألوان فيها مثلا، الصفحة الأخيرة من الغلاف، الإهداء، التصدير..وغير ذلك.. ثانيا القراءة الداخلية للرواية: وهي دراسة الإطارين الزماني والمكاني، تحليل الشخصيات، تتبع الحبكة بما فيها العقدة والحل وغيرها، مناقشة القضايا المطروحة في الرواية..كما علينا أن نبدي اهتماما حقيقيا بلغة الرواية فهي التي تحيلنا على تصورات الروائي وعلى العالم الذي أنتجه والذي يريد تصويره، فلا مناص إذن من استنطاق هذه اللغة من حيث الحقول الدلالية والصور البيانية المتواترة ونوعية الجمل والتراكيب وهل كانت لغة فضفاضة أم مكثفة؟ إلى أي حد ناسبت موضوع الرواية؟ ثم دراسة السرد وأشكاله ودرجاته والحوار وأنواعه وأدواره..فلا نهتم بالحكاية وحدها تلك التي أسميناها الفخ اللذيذ والتي تشبه حبل الغسيل الذي نستطيع أن ننشر عليه ما نريد من الحرير إلى الصوف من الثياب القشيبة إلى البالية فكل كاتب سينشر عبر الحكاية رؤاه وتصوراته. وأشارت الشامي إلى أنّ القارئ الحذق هو الذي يسعى إلى النظر وبعمق إلى المتخيل هل هو متخيل يوهم بالواقع (نجيب محفوظ) فيذكر أمكنة وأزمنة نكاذ نعرفها (نجيب محفوظ وأسماء رواياته خان الخليلي، وعلاء الأسواني شيكاغو وعمارة يعقوبيان ونادي السيارات) أم هو متخيل ميال إلى التجريد أو اللامعقول؟ (ليليان. .امرأة القارورة)، (آن الصافي في توالي ـ القارئ ـ قافية الراوي ـ جزيرة؟ صحراء؟ أنثى ذكر؟ أو في كما روح صبية أم عجوز ملك أم مملوك؟ لماذا ماذا أرادت أن تقول؟)، أم هو متخيل بين بين يجمع بين الواقعية والجموح (كالماء في الشوكولاتة)، (زمن الزغنبوت لمريم الغفلي)، (رسالة الغفران والتي أعدها شخصيا أولى الروايات). ورأت الشامي ضرورة أن يتزوّد القارئ ببعض المفاهيم الأساسية والمصطلحات النقدية ليتمكّن من فكّ رمز الرواية وسبر أغوارها مثل مستويات السرد،علاقة الراوي بالنص، تراتبية الأحداث،جمالية اللغة كما لابد من البحث عما يثري القراءة لنص ما مثل الاطلاع على حياة الكاتب وعصره، ولا بأس من أن يجرّنا النص الروائي الذي نتناوله إلى قراءة نصوص أخرى في التاريخ أو علم النفس أو غيرها من المعارف. وطبعا يبقى النص سيد الموقف فهو الذي يوجّه تناولنا وقراءاتنا الخارجية وإثراءاتنا له.. ولنكن مدركين أن نصوصنا نحن تبدأ حين ننهي قراءة نص الرواية فكما يقول عبد الرحمان منيف:"إن قراءة الرواية ليست قضاء وقت وانحدار دمعتين لنريح ضميرنا إنما يجب أن تبدأ أنت عندما تنتهي الرواية". وبما إن الرواية تضعنا أمام خريطة فسيفسائية مكونة من مرجعيات مختلفة متسعة اتساعا لا محدودافهي تجعل القارئ أمام تحديات منوعة وتجعل القراءة الواعية عملية تحتاج منا جهدا حقيقيا واطلاعا واسعا.. وهذه الأدوات والتسلح بالمعرفة عند قراءة الرواية يعفينا من السقوط في بعض الأحكام التي تصلح أو تتماشى مع نوع آخر من الكلام (مسلسل أو حكاية سمعناها أو خبر تداولته مواقع التواصل الاجتماعيّ) كما أن انتباهنا لهذه الإجراءات القرائية يجنبنا الوقوع في فخ الأحكام المسبقة تلك التي قد ندخل عالم الرواية ونحن مثقلون بها فتحرمنا متعة الاكتشاف ولذة الإبحار في النصّ.. كما أنها تجنبنا السقوط في الأحكام التقييمية الساذجة والتي تقسم النصوص إلى ثنائيات قاضية على روحه من نوع (أخلاقي وغير أخلاقي)، (صادق وكاذب)، (نخبوي ومبتذل)... وانطلاقا من أن الرواية ترتاد عوالم كانت شبه محرمة وتعيد بناء عوالم نعرفها أو لا نعرفها فعلى القارئ الواعي أن يواكب هذا الارتياد وأن يعيد هو أيضا وبطريقته بناء العالم من خلال إعادة تشكيل النص الروائي الذي ينتصب وسط فوضى الواقع رمزا لتعلق الناس بالجمال والمعرفة.
مشاركة :