كان الأكراد في ما مضى مجرد عصاة متمردين في الجبل. لكنهم اليوم شعب يقول كلمته في سياق عملية ديمقراطية.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/11/02، العدد: 10800، ص(8)] ترك مسعود البارزاني وصيته للأكراد. ليست تلك الوصية سوى الاستفتاء الذي أصر البارزاني على إجرائه وقرر الأكراد بموجبه الانفصال النهائي عن العراق. لم تعد عراقية الأكراد مادة للتفاوض. لقد قطع الأكراد الطريق على أي جهة تسعى إلى استرضائهم أو إغرائهم بالبقاء في العراق عالقين بين وهم الدولة المتحقق نظريا وبين دولة الوهم التي تم فضحها واقعيا. كان الأكراد يعيشون حياة مستقلة عن سلطة بغداد التي فقدت مركزيتها، غير أن ذلك الاستقلال الذي شكل عنصر استفزاز بالنسبة لباقي أجزاء العراق التي ظلت تعاني من الإعاقة بسبب نفوذ الأحزاب المشاركة في الحكم لم ينفع الأكراد في شيء وبالأخص على مستوى تحسين أوضاعهم المعيشية. حلم الأكراد بدولتهم لا يعني تخلصهم من وصاية بغداد فحسب بل وأيضا انطلاقهم نحو العالم باعتبارهم شعبا صنع بإرادته حريته. حلم لم يتحقق منه شيء. لقد ظل الآلاف من الأكراد متمسكين بحقهم في اللجوء في أوروبا باعتبارهم جزءا من شعب مضطهد. والأدهى من ذلك أن حكومة الإقليم الكردي كانت ترفض استقبال الأكراد الذين رُفضت طلبات لجوئهم وقررت سلطات الهجرة الأوروبية ترحليهم إلى كردستان. كردستان الآمنة لم تكن مستعدة لاستقبال أبنائها. بالعودة إلى استفتاء الانفصال يبدو ذلك الرفض ملتبسا. أما كان في إمكان البارزاني وهو الذي يرفع شعار العلمانية أن يمهد لإقامة دولته المستقلة بمنطقة تنعم بشيء من العدالة الاجتماعية بحيث تستوعب المشردين من الأكراد حول العالم؟ كان من المتوقع أن يراهن العراقيون على نجاح التجربة الكردية باعتبارها تجربة رائدة في مجال الديمقراطية غير أن تلك التجربة كشفت عن هشاشتها في أول اختبار واقعي تمر به. الحصاد الكردي من الاستقلال الذي استمر أكثر من ربع قرن لم يكن مثلما تصوره الآخرون كبيرا. هناك انقسام داخلي يتوزع بسببه الأكراد بين أربيل والسليمانية، باعتبارهما إقطاعيتين مستقلتين. ولقد خُيل للكثيرين أن البارزاني من خلال إصراره على إجراء الاستفتاء الذي نجح في الوصول إلى النتائج المرجوة منه قد فتح أبواب الجحيم على الأكراد، فمن خلاله اهتزت الثقة بصلابة وضعهم الداخلي. لو أن البارزاني أصر على البقاء في منصبه بطريقة غير ديمقراطية لكان ذلك القول صحيحا، غير أن البارزاني غادر منصبه بطريقة كريمة ولائقة وهو تصرف سيضعه في مكانه المناسب قائدا تاريخيا. ستكون المرحلة التي حكم فيها البارزاني موضع مراجعة ومساءلة غير أن ما نتج عنها كان عظيما في تاريخ الشعب الكردي بشكل خاص وفي تاريخ العراق بشكل عام. كان الأكراد في ما مضى مجرد عصاة متمردين في الجبل. هم اليوم شعب يقول كلمته في سياق عملية ديمقراطية. وهو ما يعني أن ربع قرن من الاستقلال النسبي قد أثمر كلمة سيكون لها أثرها في علاقة الأكراد بالآخرين. لقد قال الأكراد كلمة الفصل في تاريخهم ولم يكن ذلك ممكنا لولا المغامرة التي قام بها مسعود البارزاني ويظن الكثيرون أنه دفع ثمنها. نتائج الاستفتاء غير الملزم الذي أقامه البارزاني ستكون ملزمة تاريخيا. هذا شعب قرر وفق القواعد الديمقراطية ألا يكون جزءا من العراق. وهو قرار يمكن تفهمه من قبل شعوب العالم الحر كلها بالرغم من أن ثمنه سيكون على حساب العراق الموحد الذي لا تزال صورته الأخيرة موضع استفهام. عبر ربع قرن نجا الأكراد من المركب الهالك الذي اسمه العراق وهم عن طريق الاستفتاء قرروا أن يلتفتوا إلى مصيرهم المختلف. وصية البارزاني ستكون حاضرة في كل خطوة يلقيها الأكراد في اتجاه مستقبلهم الذي صار واضحا أنه لم يعد جزءا من مستقبل العراق. كاتب عراقيفاروق يوسف
مشاركة :