"المصريون يحبُّون بلدهم ويكره بعضهم بعضاً"، هكذا يشتهر المصريون دائماً، وهكذا يراهم الآخرون من أبناء الدول الأخرى. وهى ظاهرة لا يمكن إنكارها أو إخفاؤها، ولعلها تكشَّفت بشكل أكبر بعد ثورة يناير/كانون الثاني، ذلك الانقسام فى كل شيء والذي لا يكون اختلافاً صحياً إنما خلاف مدمر، فينقسم الناس إلى حزبين، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فريق يتعصب لرأيه منتقِداً الآخر بسيل من الاتهامات والطعن في دينهم ووطنيتهم أو حتى رجولتهم! إلى أن وصل الانقسام والخلاف للموت! والذي يعتبر موعظة لأولي الألباب، فأصبح كل فريق يمجد في قتلاه ويلعن قتلى الفريق الآخر! لتلك الظاهرة أسباب متداخلة؛ منها ما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو نفسي، وسنحاول في هذه التدوينة إلقاء الضوء عليها جميعاً. قد يكون الأوضح لتفسير ظاهرة كراهية المصريين بعضهم بعضاً، هو السُلطة السياسية، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. إن الحكم العسكري يعد حكماً سلطوياً بطبيعته ويستحيل أن يكون ديمقراطياً مهما ادّعى ذلك، إنَّ الحكومة من أيّ نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد؛ ما لم تكن تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه، وكلاهما لا وجود له في أي حكم عسكري. والاستبداد حليفه الأساسي الفساد، فلا يوجد الفساد إلا وترافق مع الاستبداد والعكس صحيح، وتلك من طبائع الأمور، فالدول التي شهدت حكماً عسكرياً قمعياً تدرك جيداً الفساد وتتفهم وجوده. في حين أن الدول الأخرى تتعجب عندما تسمع قصص الفساد التي تعانيها المجتمعات الأخرى، إن ذلك لا يعني أنها جنة الله على الأرض، ولكن الفساد فيها يقل إلى حده الأدنى، ويمارَس بشكل مختلف تماماً عن الفساد في الأنظمة الاستبدادية. ولا أحد ينكر أن مصر في تحولها إلى النظام العسكري المُمسِك بالسلطة منذ قرابة 60 عاماً، قد ساهم -بشكل ما أو بآخر- في الظاهرة التي نناقشها؛ وهي حالة الكراهية المنتشرة بين المصريين، فأقلُّ ما يؤثّره الاستبداد في أخلاق الناس، أنَّه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرّياء والنفاق ولبئس السيّئتان، وإنه يُعِين الأشرار على إجراء في نفوسهم، آمنين من كلِّ تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح؛ لأنَّ أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شرّ وعقبى ذكر الفاجر بما فيه (الكواكبي). ولكن في الوقت نفسه، فإن القوانين ذاتها لا تخلق سلوكاً ولا تنجح في منع آخر إلا إذا تطابقت هذه القوانين مع نفسية الأفراد ودوافعهم، والقيم الاجتماعية لا تتغير بالقوانين؛ لأنه أيضا ًكما تكونون يولَّى عليكم فهي عملية تبادلية. وفي فترات الحراك الاجتماعي السريع -تلك التي شهدتها مصر منذ الانفتاح وحتى الآن- تقوى القيم المادية على حساب القيم الأخلاقية؛ فتهون أكثر التضحية بالمبدأ والشرف، وتعلو في نظر الناس قيم الشطارة والسرعة والقدرة على انتهاز الفرص وعلى التكيف مع الظروف المتقلبة، ويضعف في الوقت نفسه بعض أنماط السلوك الأخرى؛ كاحترام الكلمة والوفاء بالوعد والتمسك بالكرامة الشخصية، وهي فضائل تحوي في طياتها معنى الثبات؛ ومن ثم تفقد أهميتها أكثر كلما زاد معدل التغيير، حيث يبدو الثبات والإخلاص للقديم، سواء كان هذا القديم صديقاً أو زوجة/حبيبة أو وعداً أو مكاناً أو عقيدة... إلخ، نوعاً من العاطفية الزائدة التي لا تليق بشخص صاعد ومتحرك (جلال أمين). ويوجد في كل مجتمع نمط اجتماعي لشخصيات أعضائه يمثل صورة مثلى لمجموعة من السلوك والقيم والاتجاهات يسعى إليها هؤلاء الأعضاء، وهو استجابة تحدث بصورة معينة في مواقف معروفة يتوقعها المجتمع، ويجري تشكيل كل شخصية في ضوء هذا النمط، وتلعب أشكال الضبط الاجتماعي أدواراً مهمة في ذلك، مما نتج عنه نمط من الشخصية يعرَف بالشخصية الفهلوية -في تحليل حامد عمار- التي تمتاز بالتكيُّف السريع والمبالغة في تأكيد الذات والعمل الفردي والرغبة في الوصول إلى الهدف بأقصر الطرق وأسرعها، مما يتولد عنه حقد وحسد وأنانية تدفع كل فرد إلى محاولة تعظيم مكاسبه على حساب الآخر، كما تدفعه لكراهية كل ناجح والسعي لإفشاله عبر التجريح أو النقد أو السخرية أو الإهانة... إلخ. ان الأمر لا يتطلب أكثر من رمز سلطوي أو ضغط اجتماعي كي يفقد الإنسان ضميره الإنساني، ويتحول إلى أداة وينصاع تماماً؛ لأن في الانصياع غريزة بقاء! والمصريون تعرضوا لكليهما.. لرمز سلطوي ولضغط اجتماعي؛ مما تولد لدى المصري الخوف من كل ما هو جديد وبات يعزف عن المشاركة الإيجابية والمبادرة، ومن ثم أصبح ميالاً أكثر إلى الانسحاب داخل الذات وإلى الاعتماد على الغير والشعور بالضياع في غيبة الزعيم القائد! والمظهر السلبي للنزعة الانسحابية يتبدى في مشاعر الحقد على من لهم السطوة والشماتة فيهم والتضرع إلى الله والأولياء لإيذائهم! (علي ليلة) هذا الانسحاب له تجلياته، منها النكتة والسخرية، والنكتة تلعب دوراً لتفريغ المشاعر تجاه الأحداث التي لا يشارك فيها المصري، فتحقق له الراحة وتصرفه عن الموضوع أو الواقع في حد ذاته، إنها تعويض عما أصاب المصريين من كبت سياسي واجتماعي وتنفيس عن الضائقات التي تنغص حياتهم، ووسيلة لجعل الحياة أمراً محتملاً، فإن وظيفتها هي التهوين من الموضوع وإعفاء المصري من التفكير الجدي في واقعه، فإطلاق النكتة يعادل إنهاء المشكلة أو حلها! وإن كانت القوانين لا تُغير من القيم الإجتماعية إلا إذا تطابقت مع نفسية الأفراد ودوافعهم، فإن الجانب النفسي له حضوره في تلك المسألة، "فكيف لأمة أن تتحطم بوصلتها الأخلاقية وتتحول إلى أدوات في يد السلطة السياسية وتمارس أشد أنواع القسوة والإيذاء دون أن يهتز ضميرها؟!". كان ذلك هو التساؤل الأبرز في أعقاب النازية الألمانية، ولعل اشهر تجربة تمت للإجابة عن ذلك التساؤل، تلك التي قام بها ستانلي مليغرام، تجربة ستانلي مليغرام، التي انتهت إلى أن الانصياع غريزة بقاء! خاصة عندما يتعرض الإنسان لضغط اجتماعي ورمز سلطوي. إن ذلك قطعاً يستدعي عملية الإسقاط التي يقوم بها البعض، فحالة الكراهية والعنصرية تجعل المصري يُسقط كل الشرور على الفريق الآخر ويربطه بكل المساوئ، وإن مجرد التخلص من ذلك السرطان سيحلّ كل المشكلات! وتتداخل تلك النزعة مع نزعة أخرى لتبرير العجز والفشل، فوجود الأشرار هو العائق أمام التنمية والتقدم. كان ذلك هو نفسه التفكير النازي الذي أسقط شرور العالم أجمع على فئات مختلفة لا تنتمي إلى العرق الآري، العجيب في الشأن المصري أن ذلك الإسقاط يتم على من هم من المجتمع نفسه وعِرقه؛ بل وديانته حتى في كثير من الأحيان! وهناك مغالطة يرتكبها الناس تؤدي بهم إلى لوم الضحية بدلاً من الوقوف بجانبها والدفاع عنها، ذلك الذي يريد للعالم أن يكون عادلاً فيتظاهر بأنه كذلك! فكل الشرور التي تحدث للآخرين هي من قبيل العقاب الإلهي على ما قدمت أيديهم! إن ذلك يريح الضمير من عناء الدفاع عنهم، كذلك يعطي جرعة زائفة من الأمان، فلن يحدث معنا مثلما حدث معهم؛ لأننا مختلفون عنهم، فنحن الأخيار وهم الأشرار! تتداخل الأبعاد النفسية مع الاجتماعية مع السياسية لتشكل في النهاية مزيجاً من القيم المتنحية التي انتشرت وأصبحت هي القيم المهيمنة، تلك القيم التي يمكن أن تتخذ من الاستبداد عنواناً لها، سواء كان استبداداً سياسياً أو اجتماعياً أو نفسياً حتى، يمارسه الإنسان على نفسه، فمن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه. وبين الاستبداد والعلم حرب دائمة ومستمرة: يسعى العلماء لتنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علِموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. وما انتشر نور العلم في أمةٍ قطّ إلا وتكسَّرت فيها قيود الأَسر، وساء مصير المستبدّين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين. (الكواكبي) فما دور النخب المثقفة بطرفيها العلماني والإسلامي في نشر نور العلم؟ إن التدهور الحضاري -الذي عشناه- أخرج القيم المتنحّية.. والقوة الغربية المهيمنة حوّلت أصحاب هذه القيم إلى مساحة للوكالة عن الحضارة الغربية، وهكذا توحد الهامش الداخلي مع الوافد المستورد، والمفروض من الخارج، ليصنعا جماعة هامشية، ومجتمع أقلية، تسوده قيم غريبة ووافدة وهامشية... لهذا، فوكلاء الغرب الثقافيون، أصبحوا نخبة لا تبدع للأمة ولأجلها؛ بل أصبحوا قوة ناقلة لقِيم الغرب، مؤكدةً للقيم المتنحِّية من حضارتنا، مما أفقد الأمة الكثير من الفرص كي تنهض مرة أخرى. (رفيق حبيب) أما النخب الإسلامية، فإن أغلبها قام بالتركيز على السياسي دون الاجتماعي أو النفسي، وهو نوع من "التضخم السياسي" لدى الحركات الإسلامية، وتعريفها: طلب "السلطان" قبل "القرآن" و"الدولة" قبل "الدين"؛ ومن ثم حصر العمل الإسلامي في الشأن السياسي، مما أفقد هذه الحركات طبيعتها الدعوية، التي هي أصل وجودها وشرط تميزها وفرادتها. (فريد الأنصاري) إن ذلك ليس قدراً محتوماً أو كما يحاول البعض إيهام الناس بأنها جينات مصرية أصيلة، فيوماً ما لم تكن تلك طباع أو خصال المصريين على الإطلاق، فما حدث بعد ذلك هو ارتداد وانتكاسة للفطرة، فالأمر يتطلب الوعي والسعي من أجل عودة الأمور لنصابها الصحيح.. والله أعلم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :