«التحوّل العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة»... أسئلة جديدة ومُقاربات فذّة

  • 11/12/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بعدما اقتحم مصطلح «العَولَمة» مُعجم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على مدى العقدَين الأخيرَيْن، فإنّ كِتاب «التحوّل العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة»، الصادر بترجمته العربية عن «مؤسّسة الفكر العربي» ضمن سلسلة «حضارة واحدة»، يشكِّل مرجعاً مهمّاً للباحثين في هذه العلوم، نظراً إلى قيمته المعرفيّة العالية، لا سيّما أنّ فصوله العشرين كَتَبتها نُخبة من أهل الاختصاص في عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة، فضلاً عن نُخبة من المؤرّخين والجغرافيّين، من فرنسيّين وغيرهم، هُم في الواقع من بين الأكثر شهرة في مجال تخصّصهم. أشرف على كتاب «التحوّل العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة» الباحثان الفرنسيّان ألان كاييه وستيفان دوفوا، فيما نقله إلى العربيّة الدكتور جان جبّور. توزّعت فصول الكتاب على أربعة أجزاء حملت على التوالي العناوين التالية: «تحوّلات تخصّصيّة، وفي بعض تحوّلات الأشياء، ونظريّات العَولَمة بين المثال والواقع، والعلوم الاجتماعيّة: إعادة تأسيس، إعادة تفكير، إعادة تنظيم؟»، فضلاً عن المقدّمة التي حملت عنوان «اللحظة العَولَميّة للعلوم الاجتماعية» بقلم الأستاذين الفرنسيّين المُشرفين، والخاتمة بعنوان «الأثر الميتا تخصّصيّ للتحوّل العَولَميّ في العلوم الاجتماعيّة». في تجاذبات الوطنيّ والعَولَميّ تُظهِر الدراسات حول الدولة والعَولَمة ثلاثة مواقف أساسيّة: أولاً؛ أنّ الدولة هي ضحيّة العَولَمة وأهمّيتها آخذة في التقلّص؛ ثانياً؛ أنّ التغيّرات ضئيلة، وأنّ الدولة عموماً تستمرّ في القيام بما كانت تقوم به دائماً؛ ثالثاً، وهذا تنويعٌ للبند السابق، أنّ الدولة تتكيّف ويُمكنها أن تتحوّل فتُواجِه بفضل هذا التكيّف التراجعَ وتبقى لاعباً أساسيّاً. في هذا الإطار، ثمّة دراسات مهمّة تدور حول هذه المواقف الثلاثة، إذ تبقى الدول بالنسبة إلى بعض الباحثين اللّاعِبَ الرئيس، بصرف النَّظر عن تغيّرات السياق؛ وبالنسبة إلى البعض الآخر، ثمّة اليوم لاعبون أساسيّون آخرون حتّى لو حافَظتْ الدول على أهمّيتها، ذلك أنّ العَولَمة غيّرت بعض الخصائص المهمّة للدول وللنظام المُشترَك بين الدول. ورغم التباينات بين هذه الدراسات، فإنّها تنحو جميعها لتبنّي الفرضيّة القائلة إنّ الوطنيّ والعَولَميّ يقومان على عمليّة الإقصاء المُتبادَل. وعليه، فإنّ دراسات الكِتاب وبحوثه تلحظ المسائل التالية: هل إنّ الدول إلى تراجُع، هل هي بالقوّة نفسها التي كانت عليها سابقاً، أم أنّها تغيّرت عبر التكيّف مع الأوضاع الجديدة من دون أن تخسر من سلطتها؟ وعلى خطٍّ موازٍ، يَطرح الكِتاب علاقة العَولمة بالعلوم الاجتماعيّة؛ ذلك أنّ زمن العَولَمة الرّاهن، وبصورة بالِغة الجدّية، أعاد النّظر في الأُسس التاريخيّة والمعرفيّة والتنظيميّة التي بُني عليها نظام العلوم الاجتماعيّة، لا سيّما في ظلّ التعدّدية الكَونيّة العِلميّة، وما يرافقها من تحوّلات في النّظام العالَميّ للعلوم الاجتماعيّة. لذا، وفي مقدّمتهما التي جاءت بعنوان «اللّحظة العَولَميّة للعلوم الاجتماعيّة»، يشرح المُشرفان على الكِتاب ألان كاييه وستيفان دوفوا الأمر بالآتي: «نشعر أو نستشعر جميعاً بأنّ نطاق العالَم ووتيرته قد تغيّرا بشكلٍ أساسيّ. لم يعُد باستطاعتنا الاستمرار في وصفه، وتحليله، وتقدير الإمكانات التي يقدّمها من دون أن نُجري تعديلاً على الأقلّ بالمدى الذي بلغته العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة التي تهيكَلت وتشكَّلت في إطار الدول القوميّة ومن منظورها. ليس لأنّ هذه الدول أصبحت من الماضي، وإنّما لأنّه يجب وضعها من الآن فصاعداً في سياقٍ مكانيّ وزمانيّ أكثر اتساعاً، وأكثر ثراءً، وأكثر تعقيداً». يتابعان: «ليس المطلوب بالتأكيد الانتقال من العلوم الاجتماعيّة الوطنيّة والمجتمعيّة إلى علوم اجتماعيّة تكون بشكل نهائي عولميّة، وإنّما بالحري التمكّن من إدراك هذا الزمن العَولَميّ للعلوم الاجتماعيّة الذي نعيشه من أجل التفكير بنقاط التواؤم القائمة بين هاتَيْن الصيغتَيْن التاريخيّتَيْن، كذلك بأشكال إعادة الصياغة، وإعادة تفسير التقليد القائم، والفرضيّات الجديدة التي يقود إليها هذا النوع من العمل». عمليّات التدويل المُعاصِرة إزاء هذا التحدّي إذاً، ومع رواج مصطلحات ومفاهيم مثل «العَولَمة»، وتجاوز الحدود الوطنيّة، واندماج العالَميّ والمحلّيّ، والكوزموبوليتيّة، والمجتمع العالَميّ»، برز إلى سطح أدبيّات العلوم الاجتماعيّة تشابُك الجوانب المكانيّة بالجوانب الاجتماعيّة للواقع. لذا، وبعنوان «الفضاءات المُتداخِلة لـِ «التحوّل العَولَميّ»، رأى الباحث لودغر بريز أنّ بالإمكان اعتماد طريقتَين مختلفتَين لتقدير عمليّات التدويل المُعاصِرة. الأولى، تشخِّص تراجُع أهميّة الفضاء (الجغرافيّ) ووظيفته، وتنظيم الفضاء عموماً، فيما الثانية تؤكِّد أثر الفضاء الموجود دائماً، لا بل المتنامي حين نأخذ بعَين الحسبان المناطق، والسلطة، والحقوق، والصلاحيّات، والدول القوميّة، والمجتمعات الوطنيّة. من ثم، اعتبر لودغر بريز أنّ هذَيْن الرأيَيْن يكونان في موقفٍ أقوى في ما لو أَدخلا في تحليلهما أوّلاً، نقدَ القوميّة المنهجيّة؛ ثانياً تفكيراً أكثر منهجيّة حول الفضاء «الاجتماعيّ» وتنظيمه. أمّا فرانك بوبو وفي دراسته بعنوان «نزاعات بيئيّة وتنظيم متعدّد المستويات: عناصر من أجل تحليلٍ سوسيولوجيّ»، فقدَّم بدوره مثالاً آخراً عن تشابك المحلّي والعَولميّ، انطلاقاً من واقِعة بيئيّة بحتة، تحديداً من خلال جبال تشاكالتايا، وهواينا بوتوسي، وتوني كوندوريري، التي خسرت الكتلة الجليديّة التي تطلّ على مدن لابّاز وأل ألتو في بوليفيا أكثر من ٩٠% من سطحها في 50 عاماً، ما شكّل تهديداً لتغذية العاصمة بالمياه وبالطّاقة الكهرومائيّة. إذ تحرّكت السلطات البلديّة والحكوميّة، ونشط خبراء المؤسّسات الدوليّة وأفراد المجتمع المدنيّ من فلّاحين وسكّان أصليّين، ليخلص إلى تبيان كيف تسبَّبت أزمةٌ بيئيّة مرتبطة بذوبان الكتل الجليديّة في بوليفيا بمشكلاتٍ اجتماعيّة من نوعٍ جديد، تستدعي معالجتها عمليّة تنظيم تشمل مستويات عدّة، من المحليّ إلى العالَميّ. الدين في عصر العَولَمة ويذهب فرانسوا غوتييه إلى الغاية نفسها، وذلك في دراسته «الدين في عصر العَولَمة: ما وراء الانقسام بين الخاصّ والعامّ»، والتي تتمحور حول كيفيّة تفسير التأثيرات البنيويّة والشاملة للدينيّ بطريقة لا يتمّ معها حصر هذا العامل بتجلّياته المؤسّسيّة والأقلّويّة ليس إلّا، مقترحاً قراءة أكثر تعقيداً لجدليّة العامّ والخاصّ، من خلال قراءته الخاصّة لمفهوم المجتمع المدنيّ. فارتكز غوتييه على فرضيّة التشابك المُتعاظِم بين الحياة الشخصيّة والفضاء العامّ، وعلى قراءة بثلاثة اتّجاهات تُظهِر الطابع غير المحدَّد بين المجتمع المدنيّ والدولة، والتداخل المُتعاظم بين الحياة الشخصيّة والفضاء العامّ، وذلك لفهم المنطق الجديد العبر- وطنيّ والمُعولَم للوقائع الاجتماعيّة، كذلك التأثير المتزايد للعامل الاقتصاديّ؛ إذ يتيح لنا توسيع مفهومٍ كمفهوم المجتمع المدني «أن نُدرِك بشكلٍ أفضل التفاعلات بين حياة الأفراد، والدولة، والسوق، في فضاء اتّصالٍ مُعولَم»؛ لذا يحذِّر من جهة من «التقوقع في نماذج لم تعُد تلبّي متطلّبات الفهم والاقتراح العائدة للعلوم الاجتماعية»، ويحذِّر من جهة أخرى من «الانتساب إلى نظامٍ عالَمي جديد وإلى تداخل التخصّصات من دون معالِم معرفيّة، متجاهلين كلّياً التقليد المفاهيميّ للعلوم الاجتماعية». خلاصة يمكن القول إن الكتاب عبارة عن مجموعة قراءات علميّة في التحوّل العَولَمي، وإنّه يحمل بين دفّتيه أسئلة جديدة واقتراحات ومُقاربات فذّة حول أُسس جديدة للعلوم الاجتماعيّة، ذهب بعضها إلى تصوّر ما يُمكن أن يفضي إليه ذلك من بروز جماعة علميّة، غير مُهيمِنة حاليّاً في العلوم الاجتماعيّة، ذلك من خلال نموذج منهجيّ جديد، هو التعدّدية الكونيّة العِلميّة.

مشاركة :