ميدان التايمز الذي اشتهر بإعلاناته الضوئية التي يحجب بعضها ناطحات سحاب يقصده السائحون من كل مكان لأسباب كثيرة أهمها التمتع بمرأى تلك الإعلانات.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/11/12، العدد: 10810، ص(9)]تايمز سكوير صباح الخير أميركا نيويورك – تايمز سكوير ليست من عالمنا ولكنها جزء من منهاتن. إنها قلب أميركا الفارغ. كل شيء هناك مختلف وجديد. للضوء رسائل موجهة إلى الخيال فهو لا ينير الطريق أمام السابلة العابرين الذين لا يرى منهم أحد أحدا. في ذلك الميدان لا يرى المرء إلا حشودا من الهائمين. ذكرى من أجل النسيان التيه المترف كما لم يعشه أحد من قبل يمكن التعرف عليه في ذلك الميدان الذي رأيته يعجّ بالمهرجين الذين لا مهنة لهم سوى أن يحرضوك على التقاط صور عبثية معهم. أيّ ذكرى تلك والعالم كله يقف على حافة النسيان. نسيان الواقع ونسيان الحياة معا. كل لحظة يقضيها المرء في ذلك الميدان الذي عبثيته مثل عدوى، عبارة عن معصية يتمنى المرء لو أنه لم يلق خطوة في اتجاهها. ولكن مَن لم يزر ذلك الميدان كما لو أنه لم يزر نيويورك. تلك مشكلة مسلية ومزعجة في الوقت نفسه.أندي وارهول ابن نيويورك طالما مجد التفاهة. لكن الروائي هنري ميلر وقد كان عميقا في بحثه عن جدوى الحياة لم ير في تفاهات نيويورك ما يعيب. كانت عيوبها بالنسبة إليه جزءا من الشخصية التي ستغزو بها العالم. وقد فعلت ونجحت في غزوها عبث في المعاني والحقائق كلها. أهذا هو الدرس الذي تنطوي عليه إقامة ميدان للفرجة على كل شيء ولكنها تنتهي بلا شيء؟ ماكنة التفاهة في ليلتي النيويوركية الأولى ذهبت إلى تايمز سكوير وأنا أعرف أن هناك مَن يفضل الإقامة فيه. سيُقال إنه مكان ساحر. وهو مكان تزوره الأمم القادمة من كل مكان. وهو أخيرا مكان ترى فيه ما لا تراه في باقي أجزاء المدينة المترامية الأطراف. ولكنه المكان الذي يمحو أثره بنفسه. لا يخيّرك تايمز سكوير بين الثقافة بمفاهيمها المعاصرة والتجارة بما انتهت إليه من أساليب للترويج. إنه يمزجهما كما تفعل المطاعم التي يتعذر عليك فيها معرفة ماذا تأكل. تذكرت الفنان أندي وارهول وهو ابن نيويورك الذي لطالما مجّد التفاهة. ولكن الروائي هنري ميلر وقد كان عميقا في بحثه عن جدوى الحياة لم ير في تفاهات نيويورك ما يُعيب. كانت عيوبها بالنسبة إليه جزءا من الشخصية التي ستغزو بها العالم. وقد فعلت ونجحت في غزوها. في ميدان الأخبار ما من خبر يمكنه أن يقوى على البقاء صامدا في مكانه دقيقة واحدة. فالعالم يتغير من حولك كل لحظة. وما عليك سوى أن تُصدم وتندهش ثم تنسى. عليك أن تنسى. كانت ماكنة أندي وارهول تطبع صورا من أجل أن يرى العالم خلود ما لا يقوى على البقاء لدقائق معدودات. متعة العيش في الإعلان يقع ميدان التايمز عند تقاطع شارع برودواي والجادة السابعة والشارع الـ42 في جزيرة منهاتن. وقد اكتسب الميدان تسميته عام 1904 بسبب وجود مبنى صحيفة نيويورك تايمز الأكثر شهرة في العالم فيه وهو المبنى رقم واحد. وكان اسم الميدان من قبل “الساحة الطويلة”.ميدان التايمز يقع عند تقاطع شارع برودواي والجادة السابعة والشارع الـ42 في جزيرة منهاتن. وقد اكتسب الميدان تسميته عام 1904 بسبب وجود مبنى صحيفة نيويورك تايمز الأكثر شهرة في العالم فيه وهو المبنى رقم واحد. وكان اسم الميدان من قبل “الساحة الطويلة”. الميدان الذي اشتهر بإعلاناته الضوئية التي يحجب بعضها ناطحات سحاب يقصده السائحون من كل مكان لأسباب كثيرة تعتبر كلها ثانوية مقارنة بالسبب الرئيس وهو التمتع بمرأى تلك الإعلانات التي صارت هدفا في حدّ ذاتها. الإعلانات العملاقة تضفي على المكان طابعا سحريا تتعطل الحواس بسببه عن العمل فيبدو المرء أشبه بأحد زوار الأماكن المقدسة، مأخوذا، مختطفا كمَن يمشي في نومه. لا يكذب ميدان الأخبار، وهي الترجمة الحرفية لتايمز سكوير، ولكنه لا يقول الحقيقة لأنه يكذب دائما. فالكذب حين يكون طبعا وصنعة يمكنه أن يحل مشكلتنا مع الصدق. الإعلانات الضوئية التي هي بحجم برج ينطح السماء لا تترك لك مجالا للتفكير. إنها تفكر بدلا منك حين ترشدك إلى ما يفيدك في حياتك اليومية. “ثم مَن أنا؟” وهو سؤال يوجهه المرء إلى نفسه في الساحة التي يكثر فيها مريدو الإعلان الذي يقطع الأنفاس ويشتت البصر. هي ظاهرة فريدة من نوعها في العالم وإن سعت مدن عديدة في العالم إلى تقليدها غير أن الأهم فيها أنها صارت واجهة لمدينة عملاقة هي نيويورك وللجزء الأكثر معاصرة منها، جزيرة منهاتن التي صارت جسورها إلى بروكلين وهي اليابسة الأميركية بمثابة جسور إلى العالم كله. زيارتها واجبة لأنها تقدم الكثير من مفاتيح نيويورك غير أن الإقامة فيها لا بدّ أن تقود إلى العمى. فلا شيء يمكن تخيله بصريا بعدها.العالم كله يقف على حافة نسيان الواقع ونسيان الحياة معا. وكل لحظة يقضيها المرء في تايمز سكوير الذي عبثيته مثل عدوى، وعبارة عن معصية. في إمكان ميدان الأخبار أن يحل محل المدينة التي قد لا يحتاج المسافر إلى الذهاب إليها بسبب غرقه الليلي في أضواء ذلك الجانب، فالروح فاقدة القدرة على التحكم بأوقاتها. يمدّ التايمز سكوير جسورا إلى العالم غير أنها تقف بين المرء ونفسه فلا يقوى على التفكير بماضيه ولا بمستقبله. الحاضر وحده يقف أمامه جاهزا مثل وجبة في ماكدونالدز أو بيرغر كنغ أو كنتاكي. الأرنب في طريقي “يمكنك أن تلتقط صورة معي من غير مقابل” يقول لي الأرنب، تذكرت حينها حكاية “أليس في بلاد العجائب” مرتبكا. كان الأرنب الذي يقف أمامي بحجم كبير إنسانا ارتضى لنفسه أن يكون أرنبا، وهي مهنة تقترحها الحياة في ذلك الميدان الخيالي الذي هو شاشة لحقائق عصرنا، ما خفي منها وما ظهر. لقد رفضت أن ألتقط مع ذلك الأرنب صورة بسبب رغبتي في ألّا أضحك على نفسي وهي رغبة لا تمت إلى الحقيقة بصلة. لكي لا أبدو مهرجا وهو أمر قد لا أتمكن منه فعلا. أمن أجل أن أؤكد للآخرين أنني مررت بذلك المكان صار عليّ أن أقف مثل معتوه إلى جانب أرنب؟ ما لم أصدقه في تلك اللحظة صدقته وتصدقه الملايين من البشر. سيكون حدثا سارا بالنسبة إلى تلك الملايين أن تلتقط صورة مع أرنب في تايم سكوير. حدث استثنائي سيثير الكثير من الأسئلة في تاريخ العائلة. كل شيء يوحي بالمكر. هناك خديعة في انتظارك وأنت تنزلق بهدوء وشغف. لست سوى واحد من نصف إنسان يمر ببلاد العجائب.الإعلانات الضوئية التي هي بحجم برج ينطح السماء لا تترك لك مجالا للتفكير. إنها تفكر بدلا منك حين ترشدك إلى ما يفيدك في حياتك اليومية الحرية عارية لا يحتاج المرء في تايمز سكوير إلى نصيحة من نوع “خذ راحتك. في إمكانك أن تفعل ما تشاء هنا” يمكنك أن تتحقق من ذلك من خلال مراقبة المارة وإن كان التلصص يتم بصعوبة بسبب الازدحام الذي يشهده المكان وسرعة مرور العابرين والأضواء التي تخفي الكثير مما يمكن أن يُرى من المباني ومن الناس وضيق الوقت والوقت هناك ضيّق دائما. ما إن يجلس المرء للمراقبة حتى يكتشف أن حفلة جنون كبيرة تجري من حوله، هو الآخر جزء منها فلا يُستبعد أن يراه الآخرون مجنونا، متخذين من جلسته جامدا كتمثال دليلا على جنونه. وليس في ذلك ما يضر أو يسيء. ففي ذلك الميدان الواسع هناك مَن يرقص على هواه كما لو أنه في حفلة فالس أو يغني بصوت عال مقطعا من أوبرا وهناك مَن يكلم نفسه بلغة سعيدة. إلا أن كل ذلك يجري في إطار طقس جماعي يخاله المرء مستمرا إلى يوم القيامة فلا ينتهي. وهو ما يعزز الشعور بسلطة الروح الأميركية التي تتباهى وتفخر بزهو بما هو زائل وشاذ واستثنائي وصادم وانتهاكي. وسط جوقة الأرانب رأيت فتاة تتنقل عارية بثقة وقد قام أحدهم برسم ملابس داخلية على جسدها. قلت لنفسي “هي ذي الحرية عارية”. هل كانت تلك الفتاة إعلانا أم أنها مثل الأرانب تعمل لحسابها الخاص؟ سيكون من الجنون أن تسأل أحدا عن أحد في ذلك المشهد الذي يبدو عفويا على مستوى الواقع المتاح، أمّا في حقيقته فإن كل شيء فيه مصنوع من ألفه إلى يائه. إنها حفلة مختلقة من أجل أن يبدو اللاشيء ضروريا. “صباح الخير أميركا” البرنامج الأكثر شهرة ينتج في تايمز سكوير.
مشاركة :