< استعرضت في مقالة سابقة، نشرت في صحيفة «الحياة» بتاريخ 21-9-2017، الأعمال والممارسات السلبية للحكومة القطرية، وكذلك الاحتمالات المختلفة لتطورات وتداعيات الأزمة القطرية الحالية. وسأناقش في هذه المقالة الأسباب والدوافع، التي جعلت الحكومة القطرية تقوم بأعمالها السلبية الخطرة، التي تمس الأمن الوطني لدول المقاطعة الأربع (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، إذ أنكرت الدوحة قيامها بهذه الأعمال، وزعمت أنها مفبركة ضدها، ولكن الأدلة الدامغة تؤكد وتوثق ممارسات قطر السلبية، وتبين كذبها، وعدم التزامها بتعهداتها السابقة بوقف تلك الممارسات. وإذا كان تعريف السياسة بشكل عام «هو فن الممكن وفن المساومة»، فإن تعريفها في القاموس السياسي القطري هو «فن الكذب، وفن الاحتيال، وفن المراوغة». وتشمل ممارسات الحكومة القطرية الموثقة دعمها الإخوان المسلمين في مصر، وتقاربها مع إيران، ودعمها الحوثيين في اليمن، ومن هذا العرض المختصر لمخاطر الممارسات القطرية المؤذية أنتقل لمناقشة الأسباب والدوافع التي جعلت الحكومة القطرية تقدم على أعمالها الخطرة، ورأيت في هذه المناقشة أن أبدأ بذكر المثل العربي الشائع «إذا عُرفَ السببُ بَطُلَ العَجَبُ» مع تغيير كلمة «بطل» في المثل إلى كلمة «زاد»، لأن ممارسات حكومة قطر السلبية تستدعي الاستغراب حقاً. ويعود السبب الرئيس لقيام قطر بأعمالها السلبية ببساطة، كما يرى بعض المحللين السياسيين، إلى ما يمكن وصفه بعقدة «الصغير من الكبير»، وتتمثل بعقدة قطر القديمة والمستمرة من السعودية. وتمت مناقشة مسألة هذه العقدة منذ بداية الأزمة القطرية الحالية، وليس من المعروف تماماً متى بدأت هذه العقدة بالظهور؟ وهل تم ذلك أثناء فترة حكم الشيخ خليفة أم حكم ابنه الشيخ حمد؟ وللمساعدة في فهم عقدة قطر هذه يمكن الإشارة إلى حديث قديم للرئيس الأميركي جورج بوش الأب، قال فيه إنه قد يكون هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي يعرف موقع دولة قطر على الخريطة. ويمكننا الافتراض هنا على أن مثل هذه الأحاديث التي تم تداولها هنا وهناك عن حجم قطر الصغير قد ساعد فعلاً في نشوء وتطور عقدة قطر من السعودية الكبيرة بمكانتها العربية والإسلامية والدولية، وإضافة إلى عقدة قطر من السعودية، تطورت عند الحكومة القطرية على ما يبدو عقدة أخرى لاحقة من الإمارات بسبب منجزاتها الحضارية والثقافية والعمرانية والسياحية الهائلة، والتي جعلت المتابعين لتطورات الإمارات في العالم يستخدمون مصطلح «المعجزة الإماراتية» لوصف المنجزات العديدة التي تم تحقيقها في الإمارات بوقت قصير. وانطلاقاً من عقدة «الصغير من الكبير» وما نتج منها من غيرة وحسد، إذ تكونت لدى حكومة قطر الدوافع والأسباب التي جعلتها تقوم بأعمال سلبية مؤذية عدة، ليس ضد السعودية والإمارات، ولكن ضد البحرين ومصر أيضاً. وتمادت حكومة «الحمدين» في هذا المسار كثيراً، ووصل بها الأمر إلى حد التآمر مع القذافي وتنسيق العمل معه لإثارة الفوضى والفتن في السعودية بما في ذلك الاغتيالات، وهكذا تحولت عقدة الصغير من الكبير من مجرد كونها ظاهرة غير طبيعية في السيكولوجية السياسية القطرية إلى طعنات غدرٍ يوجهها الأخ الصغير لأخيه الكبير. واستمرت الحكومة القطرية في ممارساتها المؤذية لسنوات طويلة وتجمع لدى كل دولة من دول «المقاطعة الأربع» ملف كامل عن السوابق القطرية الخطرة، إذ إن السوابق القطرية في أذية دول المقاطعة هي كثيرة جداً، وأن ادعاء حكومة قطر بأنها مظلومة لأن الدول التي تقاطعها هي أربع، بينما تقف هي وحدها في مواجهتهم هو، في ضوء ملف سوابقها، ادعاء باطل وغير صحيح، فالتظلم من اجتماع الأربعة ضد واحدٍ هو حجة على قطر وليس حجة لمصلحتها، فالحكومة القطرية تعمل وفق أجندة قديمة تعود لبداية فترة حكومة الحمدين وربما ترتبط بوصول الشيخ حمد إلى الحكم وانتزاعه السلطة من والده الشيخ خليفة. وإن التأمل في ممارسات الحكومة القطرية السلبية يوضح وجود انسجام والتقاء كبير بينها وبين الممارسات السلبية الإيرانية القديمة المعادية للسعودية وللمنطقة العربية بشكل عام، ولهذا فإن كل من يقول إن مقاطعة قطر من الدول الأربع سيدفع بالحكومة القطرية للذهاب نحو طهران، نقول له «صح النوم»، فإن قطر ذهبت إلى إيران من فوق وتحت الطاولة، وارتمت في أحضانها منذ وقت طويل. وجاء تركيز عداوة إيران على السعودية لأن السعودية وقفت بالمرصاد لجميع ممارسات إيران العدوانية ضدّ العرب، إذ أدركت طهران الأهمية الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والدينية للسعودية؛ فالسعودية هي التي لعبت دوراً قيادياً عربياً بارزاً في منع احتلال إيران للعراق خلال السنتين الأخيرتين لحرب إيران والعراق الطويلة، كما قامت السعودية أيضاً بلعب دور تاريخي كبير في حرب تحرير الكويت بقيادة سعودية، إذ كان الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز قائداً لقوات التحالف في هذه الحرب، ونجحت السعودية في حماية البحرين من محاولة إيران للسيطرة عليها، كما تقوم السعودية الآن بقيادة قوات التحالف العربية ضد الحوثين المدعومين من إيران في اليمن. وواجه سياسة إيران وبرامجها الثقافية الهادفة إلى إثارة الفتنة الطائفية القديمة بين السنة والشيعة كثير من المشكلات في العالمين العربي والإسلامي، وأدت إلى قطع المغرب العلاقة الديبلوماسية مع إيران بعد إقدام المغرب على إغلاق المكاتب الثقافية الإيرانية، واحتجاجه مع الدول العربية الأخرى على تصريح صدر عن موظف في وزارة الخارجية الإيرانية يمس سيادة وأمن البحرين. كما تجاهلت الحكومة القطرية جميع الممارسات الإيرانية السلبية هذه، وذهبت نحو طهران بخطى متسارعة، لأنها كانت بحاجة ماسة إلى إيران لتنفيذ مخططها المعادي للسعودية والإمارات والبحرين ومصر، فبعد أن أعمت الغيرة والحسد حكومة قطر، وبدأت تعمل على تنفيذ مشروعها الهادف إلى تهميش وإلغاء الدور السعودي عربياً وإسلامياً ودولياً، وقيامها هي بلعب هذا الدور، بدأت الحكومة القطرية تدرك حجم الصعوبات والعقبات التي تواجهها في تحقيق هذا الأمر. فكيف يمكن لدولة مكانها على الخريطة غير معروف للكثيرين من السياسيين في العالم أن تلعب الدور نفسه، الذي تلعبه السعودية، أرض الحرمين الشريفين الممتدة من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، وصاحبة المكانة العربية والإسلامية الدولية الكبيرة؟ اعتقدت حكومة «الحمدين» في «أحلام العصافير» أن بإمكانها تجاوز هذه العقبة من خلال الاعتماد على ثروة قطر الهائلة من الغاز الطبيعي، ومن إنشاء التحالفات والصلات الإقليمية والدولية، التي يمكن أن تساعدها في تنفيذ مخططها المعادي للسعودية والإمارات والبحرين ومصر، واعتقدت واهية أنها تحتاج إلى جناحين وذيل لتحليق طيرها الصغير في السماء العربية والهيمنة عليه من دون أي منازع (الرأس في هذا الطائر هي الحكومة القطرية وجناحاه هما الأخوان المسلمون وتركيا وذيله هي إيران)، فبهذه الطريقة، كما ظنت حكومة قطر، يمكن للدولة الصغيرة أن تقود العالمين العربي والإسلامي. فالإخوان المسلمون أولاً، وبخاصة إذا حكموا مصر، وإيران ثانياً، وتركيا ثالثاً، سيشكلون كما، رأت حكومة الحمدين، الركائز الثلاث التي يمكن لقطر الاعتماد عليها إقليمياً لتنفيذ مخططها الهادف لقيادة العالمين العربي والإسلامي، وبدأت في ترتيب أمورها مع هذه الأطراف الثلاثة بطرق مختلفة، وتورطت الحكومة القطرية في تنفيذ هذا المخطط بإنشاء صلات مع جهات متطرفة وإرهابية، وربما من دون أن تدرك في البداية أخطار هذا التورط. وأدركت حكومة قطر أيضاً حاجتها إلى إنشاء علاقات وصلات مع الغرب الديموقراطي يمكن أن تساعدها في تنفيذ مخططها الغريب، إذ قامت فعلاً باتصالات قوية مع سياسيين وأعضاء في الكونغرس الأميركي، وفي البرلمانات الأوروبية، ومع مؤسسات استخباراتية، وجماعات اقتصادية، وإنسانية، ومع إعلاميين، ومثقفين بارزين في أميركا، وأوروبا، وغيرها من الدول ذات النفوذ في العالم. واستفادت حكومة قطر من تطور سياستين أميركيتين في البيت الأبيض أثناء حكم الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما، إذ بنيت سياسة بوش التي نشأت بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على الدعوة لإنشاء «الشرق الأوسط الجديد»، وكان الهدف من هذه السياسة، كما يعتقد بعض المحللين السياسيين، هو إشغال العرب بأنفسهم من خلال تشجيع الانقسامات والنزاعات الدينية والاثنية في المنطقة، مع التركيز على الانقسام القديم بين السنة والشيعة، وكذلك الدعوة إلى تطبيق الديموقراطية، لأن من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة العربية، وأن الهدف العام من سياسة بوش الثنائية، كما يضيف المحللون السياسيون، هو إضعاف قدرة العرب على تهديد الأمن القومي الأميركي والمصالح الأميركية في الشرق الأوسط. وأما سياسة واستراتيجية أوباما فارتبطت عموماً بسياسة بوش، ولكنها اختلفت عنها في الجزئيات، إذ ارتكزت سياسة أوباما على أربعة مبادئ هي: 1- الترويج أثناء الربيع العربي لفكرة «الفوضى الخلاّقة»، التي ستمهد الطريق أمام تحقيق استقرار دائم في المنطقة العربية، يقوم على الديموقراطية؛ فالرئيسان بوش الابن وأوباما كانا متفقين على أهمية تطبيق الديموقراطية في الدول العربية، والتي من شأنها أن تخدم مصالح الأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط. 2- قامت استراتيجية أوباما أيضاً على دعم الإخوان المسلمين، واعتبارهم حزباً سياسياً وسطياً يمثل الإسلام المعتدل، ويقبل بالديموقراطية والتعايش مع الآخر. 3- تبنى أوباما سياسة ومنهج غض النظر عن أنشطة وممارسات إيران العدوانية، وتوسعها في إنتاج الصواريخ، وغضّ أوباما النظر كذلك عن قمع وقتل حكومة الملالي في طهران المعارضة الإيرانية. 4- شملت سياسة أوباما اهتمامه الكبير بمعالجة مشكلة تخصيب إيران اليورانيوم من خلال التفاهم مع طهران في هذا الأمر، ونجح في وضع أسس اتفاق لعملية تخصيب اليورانيوم بين إيران من طرف ومجموعة دول (5+1) من طرف آخر، وأدّى هذا الاتفاق إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران. واستفادت حكومتا طهران والدوحة من سياستي بوش الابن وأوباما، واستغلتهما الحكومة القطرية أفضل استغلال، ووظفت في ذلك محطة الجزيرة، بوقها الإعلامي الأول، والتي ساعدت في برامجها الإخبارية في إثارة الفتن والمشكلات في المنطقة العربية والإسلامية، وروجت هي والحكومة القطرية للديموقراطية في المنطقة من دون أي تطبيق فعليٍ ملموسٍ لها في قطر، واتخذت حكومة قطر من سياسة أوباما حجة لكي تبرر دعمها واحتضانها الإخوان المسلمين، وتوسعت في إنشاء علاقات تحت الطاولة مع موظفين في المؤسسات الاستخباراتية والعسكرية والأمنية الأميركية، ووافقت على إنشاء القاعدة العسكرية الأميركية في قطر، واستفادت أيضاً من غض نظر أوباما عن إيران لتوسيع وتوطيد علاقاتها معها، واستخدمت حجة السيادة غطاءً لتبرير ذلك. والمسألة لا تتعلق حقيقة بالسيادة، ولكنها ترتبط بتجاهل حكومة قطر السياسات العدوانية الإيرانية ضدّ العرب. ويمكننا الافتراض بأن ترتيب الأمر بين المؤسسات السياسية والاستخباراتية الأميركية المعنية، وبين قطر، تم إما من خلال عرض حكومة «الحمدين» لخدماتها، أو من خلال إقناعها من الطرف الآخر بالقيام بهذا الدور. * أكاديمي وعضو مجلس الشورى السابق.
مشاركة :