في المسألة الكرديّة: رُبّ ضارّة نافعة

  • 11/14/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

الهستيريا العارمة التي سبقت ورافقت وختمت عملية الاستفتاء التي أنجزها إقليم كردستان العراق انتهت بما يشبه الوقوف في عزاء للموتى. أريد للاستفتاء أن يكون عرساً ولكنه تحول إلى مأتم. غير أن هذا الأمر كان متوقعاً. الجميع، رؤساء دول وحكومات وهيئات وفرق وأحزاب، حلفاء وخصوم، قريبون وبعيدون، توقعوا ذلك. كاتب هذه الأسطر كان من المعترضين على الاستفتاء. وكتبت حول هذا في هذه الصفحة. أقول ذلك لا لكي أشمت وأردد تلك العبارة المضحكة: أكد التاريخ صحة ما قلته. أكتب ذلك لكي أقول إن الأمر كان واضحاً بالنسبة لي، كفرد كردي بسيط لا باع له في السياسة والتحليل، وأنني كنت أعبر عن قلقي على مصير ناس رماهم القدر في هذه البقعة الجهنمية من العالم. الآن يكرر الجميع أن السيد مسعود بارزاني غامر بمستقبل وأمن وسلامة شعب كامل من أجل لحظة غرور شخصي. هو ولد وكبر وترعرع ونضج وصار محنكاً في أتون السياسة في هذه المنطقة، حيث يحل النفاق والكذب والتآمر والبطش والتعسف محل العدل وتقرير المصير وحقوق الإنسان ومستقبل الشعوب. كان يعرف عنه أنه يستوعب الحقائق القاسية ويعرف المسافة بين الواقع والحلم، هو الذي لم يتردد، حين اصطدم بصخرة الواقع القاسية، في أن يلجأ إلى صدام حسين، قاتل شعبه وأهله وإخوته، كي يخلصه من غريمه، جلال الطالباني. انحاز بارزاني إلى الشعارات والوعود الضبابية بديلاً من الانحياز لمقتضيات الحياة اليومية للناس. تلاعب بعواطفهم ونزعتهم القومية تهرباً من استحقاقات العيش. ويبدو أنه لم يفكر بالناس حين قرر إجراء الاستفتاء وتشبث به على رغم كل شيء. بالنسبة له كان الأمر ضربة معلم في طريق التحول إلى زعيم تاريخي، والبقاء، مع العائلة، في سدة السلطة، إلى الأبد. هو كان يعرف أن الاستفتاء لم يكن ليغير شيئاً على أرض الواقع سوى تثبيت حكمه وحكم أبنائه وأقاربه. كان يعرف أنه في اليوم التالي للاستفتاء سينهض الناس كما من قبل، ليتناولوا فطوراً، إن وجدوا أن لديهم فطوراً. سيذهب العامل إلى ساحة العمل للبحث عمن يشغله حفاراً أو بناء أو كناساً، وسيستمر ماسحو الأحذية في احتلال أماكنهم على الأرصفة بالقرب من الجوامع. سيظل المسؤول يقود سيارته محاطاً بجيش عرمرم من الحراس ورجال الحماية. أم الشهداء سوف يهتفون لها قائلين: دم ابنك لم يذهب سدى، وستصدق الأمر في اللحظة الأولى ثم سرعان ما ستصحو على الواقع وتعرف أنه مات ولن يرجع، وأنها ستظل تنزف حزناً وكمداً وعذاباً، ولن يتبدل في حالها شيء، وسترى أن أبناء المسؤولين، الذين هم في عمر ابنها «الشهيد» يعيشون حياة بذخ ورخاء ويتلقون التعليم في أرقى الجامعات الأوروبية. يعرف الجميع أن الاحتفال بالاستفتاء كان حفلة تنكرية صاخبة أعمت العيون وأصمت الآذان غير أنها لم تختلف عن الاحتفال بعيد ميلاد القائد. كان مجرد ألعاب نارية غطت السماء وزينت العتمة لحظات ثم صحا الجميع في اليوم التالي ليكتشفوا أن لا شيء تغير. ثمة ركام المفرقعات ورائحة البارود. الاستفتاء، أو الاستقلال، ليس تحولاً في شكل عيش الناس وفحوى حياتهم. لو أن أحدهم دعا إلى إجراء استفتاء في شأن التخلص من الحكم العائلي وكشف ذمة الحكام وتقديمهم للمحاكمة إذا ما تجاوزت ثروتهم ثروة أي عامل أو موظف في كردستان. لو طلب الناس ذلك لرفض بارزاني الدعوة بالتأكيد ولاعتبرها مؤامرة على الشعب الكردي. الحال أن كردستان كانت في حاجة ماسة، ليس إلى الاستفتاء على الاستقلال بل إلى تغيير المشهد السياسي الكردي جملة وتفصيلاً. فأن يقال أن سلطة الإقليم غارقة في الفساد ليس تهمة بل حقيقة غير قابلة للدحض. وأن يقال أن الحكم قائم على التوريث العائلي والقرابة والأنسباء والعشائرية ليس إشاعات يرددها المغرضون بل هي أمر واقع يراها كل إنسان. والحقيقة التي كشفت عنها حادثة تسليم كركوك، من دون قتال، للحشد الشعبي هي أن مقولات الوطن والاستقلال وحق تقرير المصير ليست سوى أكاذيب للتغطية على واقع فاسد، هش، مضعضع، ينخر جسد المجتمع الكردستاني. أما الحقيقة الصارخة، المدمرة والبشعة والمؤلمة والتي تفقأ الأعين، فأن هناك صراعاً بين عائلتين تستخدمان حزبين سياسيين كواجهة عصرية في غمار تنافسهما الضاري والمديد على السلطة والمال والجاه. لن يقوم هناك كيان سليم، عصري، مزدهر، ما لم يتم التخلص من هذه التركيبة العائلية، العشائرية، وإفساح المشهد لفضاء مفتوح للأفكار والبرامج ووجهات النظر كي تتبارى وتتنافس، تواكبها صحافة حرة وإعلام تعددي وحريات عامة وقضاء مستقل. في الجو المشحون، الغوغائي، العاطفي، الذي سبق الاستفتاء، جرى تحويل الناس إلى صنفين: جيد يؤيد الاستفتاء وسيء يعارضه. كان هناك تخوين وتكفير وتشنيع وتبشيع لا سابق له. وتم تصوير المعارضين في هيئة خونة وعملاء لا يريدون أن تقوم دولة مستقلة للأكراد، شأن الأمم والشعوب الأخرى. ووجدت نفسي، صامتاً، في صف السيئين. لم أهلل للاستفتاء ولم أؤيده. غير أنني فعلت ذلك ليس لأنني ضد فكرة قيام دولة كردستانية مستقلة. بالعكس، لأنني من أشد الداعين إلى ذلك. أنا من جيل تربى وهو متخم بحلم واحد يغوص عميقاً في الوجدان والمشاعر: كردستان مستقلة. أنتمي إلى رهط من الناس عاشوا ويعيشون على هذا الحلم. حلم ما انفك يداعب مخيلتنا. حلم نرسمه نحن بألوان مخيلتنا ومشاعرنا. أنا كنت ضد الاستفتاء لأنني لم أكن أريد أن أخسر هذا الحلم. كنت أريد أن تبقى كردستان كما رسمتها في مخيلتي. كردستان التي أحلم بها هي تلك البقعة التي أريد لها أن تكون نموذجاً جميلاً رائعاً في عتمة العسف والذل والمهانة والخراب الممتد في طول المنطقة وعرضها. نجمة ساطعة في ليل الدول والدويلات الفاسدة والقامعة المهترئة، لا مجرد رقم جديد في هذه المعمعة المقيتة. أحلم بكردستان خالية من العصبية القومية والأيديولوجية الحديدية والنزعة القتالية وهوس الكفاح والقوة والزعامة وعبادة المظاهر العسكرية وتقديس البيشمركة والمقاتلين والعسكر والآسايش والزانياري وحرس حماية الرئيس. أحلم بكردستان يختفي فيها الميل نحو الأمة الواحدة بدلاً من الدولة الواحدة حيث تكون كل القوميات والأديان والمذاهب على قدم المساواة، قولاً وفعلاً، ويكون المجتمع مفتوحاً للجميع وليس لقومية سيدة تعامل القوميات الأخرى كالعبيد. أنا كنت ضد الاستفتاء لأنني لم أجد ما يعزز القناعة لدي في أن كردستان المستقلة ستكون كما رسمتها أحلامي. لست أعرف، الآن، ما إذا كان الحلم انهار بالكامل أم أن هناك أملاً في أن يتحقق يوماً ما؟     * كاتب كردي

مشاركة :