صعبٌ جداً اختيار كتابٍ جيد، وأصعب منه العثور على كتاب ممتع. لذا يلزم الاستعانة ببعض المجسّات الأدبية التي قد تسهّل عملية اقتناء الكتاب. ومن ضمن مجسات اختيار الكتاب الجيد: - اسم كاتب يعرفه القارئ ويتلهف لقراءة الجديد من أعماله. - مقال نقدي عن كتاب بقلم ناقد يثق القارئ برأيه النقدي. - رأي صديق للقارئ مطّلع على حركة الكتاب، وله باعٌ طويل في عالم الكتب. - اسم مترجم يثق القارئ بإبداعه وذوقه الفني. - نصيحة ناشر يعرفه القارئ ويثق بصدق كلمته. عرف العالم الروائي الألماني "باتريك زوسكيند-Patrick Süskind " المولود عام 1949، بروايته الأشهر "العطر-Das Parfum" التي تُرجمت إلى معظم لغات العالم، وتحولت إلى فيلم سينمائي، وباتت تشكّل علامة مهمة من كلاسيكيات روايات القرن العشرين. ولأن العمل الروائي اللافت يبقى كاللعنة التي تطارد صاحبها، وتبقى حاضرة تسبقه لأي كتاب جديد ينشره، فإنني لحظة وقعت عينيّ على "حكاية السيد زومّر-Tale of Mr. Sommer" المنشورة بطبعتها الأولى 2017 عن دار المدى، استذكرت أحداث رواية "العطر"، وأسرعت لاقتناء الكتاب، خاصة أن المترجم هو الدكتور نبيل الحفار، الذي يُعدُّ أحد المترجمين العرب الجادين والمبدعين والمخلصين لمهنة الترجمة. تصميم غلاف كتاب "حكاية السيد زومَّر" كان ذكياً في طريقة توصيف جنس الكتاب بكونه رواية، فكلمة رواية جاءت بخط صغير، وفي طرف صفحة الغلاف حتى لَيصعبُ الانتباه إليها أو ملاحظتها. وربما مرد ذلك إلى أن عنوان الكتاب الأصلي الذي يتضمن ويشير بصراحة إلى مادة الكتاب وكونها "حكاية"، وهذا أمر في غاية الأهمية، فمن الضرورة تجنيس نوع الكتاب، لأن ذلك يشكل عتبة أولى أساسية للدخول إلى عالم الكتاب. لا علاقة البتة لرواية "حكاية السيد زومَّر" برواية " العطر"، لا في طريقة السرد ولا الحبكة ولا اللغة، حتى ليُخيّل للقارئ أن كاتب هذه الرواية هو شخص آخر لا يمت بصلة لباتريك زوسكيند. لكن الأمر الواضح هو قدرة وموهبة زوسكيند المبدعة واللافتة على تدبيج حكاية بلغة أقرب إلى لغة كتب الأطفال، وبنَفَسٍ سردي آسر، يجعل القارئ لا يقوى على ترك الكتاب إلا لحظة الانتهاء منه. مع ملاحظة أن الرواية جاءت مصحوبة برسومات بريشة الفنان الفرنسي "جان سِمْبِه-Jean- Jacques Sempe"، وهذا أمر قليل الحدوث في روايات الكبار"، وقد يكون إشارة إلى أن الحكاية موجّهة للأطفال أو الناشئة. "حكاية السيد زومَّر" تأتي بصيغة ضمير المتكلم، يسردها طفل للقارئ في بداية الحكاية: "في ذلك الوقت، عندما كنتُ لا أزال أتسلق الأشجار، وهذا منذ زمن بعيد، بعيد جداً، قبل سنوات وعقود كثيرة" ص5، ويظل هذا الطفل يكبر مع نمو حكاية السيد زومَّر الغريبة. وما يلفت النظر إلى الحكاية هو كيفية ربط عالم الطفل بعالم السيد زومَّر. وإذ تحمل الحكاية مستوى أول ظاهراً، فإنها تبدو في مستويات تلقٍّ أخرى، مفتوحة على سماءات من التأويل. فالرجل زومَّر الذي يبقى سائراً طوال يومه حول البحيرة، دون أن يترك لأحد التدخل في حياته، قد يكون رمزاً لعمر الإنسان، خاصة أن طفل الرواية أو بطلها، يلاحظه بشكل خفي، وفي المرة الوحيدة التي تكلم معه أجابه: "دعوني في سلام". هل زومَّر هو رمز لحياتنا التي تسير دون أن تلتفت لأحد؟ وهل متعة بطل الرواية في تسلق الأشجار والنظر إلى العالم من علوٍ هي إشارة إلى ضرورة أن نتأمل ما يحيط بنا من بُعدٍ كي نتبين حجمه الحقيقي ولا يأخذنا الانفعال به فيدمر حياتنا. "حكاية السيد زومّر"، قد تكون حكاية لحياة أي قارئ، وربما بهذا يضمن باترك زوسكيند وصولها وتأثيرها في القارئ!
مشاركة :