القاهرة : «الخليج» يعتبر «باتريك زوسكيند» المولود في 26 مارس سنة 1949، ظاهرة فريدة بين الكتاب الألمان، فهو لم ينشر سوى مسرحية واحدة مطلع الثمانينات بعنوان «الكونترباص» أعقبها عام 1985 برواية «العطر» التي حققت نجاحاً مدوياً، وتعد أشهر أعماله، وقد ترجمت إلى أكثر من 48 لغة، من ضمنها العربية، وترجمها نبيل الحفار، وبيع منها ما يزيد على 15 مليون نسخة حول العالم، وتحولت في عام 2006 إلى فيلم سينمائي.بقي اسم الرواية في قائمة الأفضل مبيعاً لسنوات، وتدور أحداثها في القرن الثامن عشر في فضاءات باريس، وتروي سيرة حياة جرونوي، وهو شخصية غريبة صاعدة من عالم باريس السفلية، ويتملك حاسة شم إعجازية، وتسرد الرواية تطور حياته، وكيف أصبح مجرداً من مفهومي الخير والشر، لا يحركه إلا شغفه بمتابعة العطور والروائح، ولا يحده وازع أخلاقي.بعد تلك الرواية نشر زوسكيند قصتين، الأولى بعنوان «الحمامة» والثانية «حكاية السيد زومر» ثم نشر ثلاث قصص قصيرة تحت عنوان «هوس العمق» وصمت بعدها تماماً، ومع ذلك لا يزال اسمه لامعاً بين أشهر كتاب ألمانيا، وتبعاً لسمير جريس الذي ترجم «الكونترباص» إلى العربية، فإنه «يمثل بالفعل حالة فريدة في الأدب الألماني، إنتاجه الهزيل كمّاً، يتميز بخاصية غريبة عن معظم الأعمال الأدبية القيمة في ألمانيا، زوسكيند يجمع في أعماله بين الجدية والفكرة العميقة واللغة المحملة بالرموز والإيحاءات، وبين الأسلوب التشويقي والعالم الغرائبي، لا سيما في «العطر». توازن إنه يوازن بين طموحه الأدبي وبين النجاح الذي يبتغيه لدى الجمهور العريض، وهو ما تحقق له بصورة خاصة في «الكونترباص» ففي ثنايا أعماله يقدم زوسكيند معلومات عن الموسيقى الكلاسيكية، وتطور الأوركسترا وأعمال مشاهير الموسيقيين، وفي «العطر» يقدم معلومات عن الروائح في فرنسا القرن الثامن عشر، دون إثقال على القارئ، ودون أن يتحول العمل إلى ساحة لاستعراض معلومات المؤلف النظرية الجافة، ويبتعد أيضاً عن الموضوعات التي تتماسّ مع السيرة الذاتية، على النقيض من القسم الأعظم من الكتاب الألمان، كما أن أعماله تتناول موضوعات إنسانية عامة، يمكن أن تحدث في أي مكان.يشير سمير جريس أيضاً إلى أن زوسكيند يتميز بشيء فريد، هو ابتعاده عن التدخل في الحياة العامة أو السياسة، ونفوره من وسائل الإعلام، إنه لا يريد أن يتدخل أحد في حياته، لا من قريب ولا من بعيد، ولا يؤسس لصورة معينة عنه، فلن تجد حديثاً صحفياً معه، ولا صورة في جريدة، وقبل أن يكتب الكونترباص عام 1980 جرب قلمه في عدة أعمال، لم يجد من ينشرها، ثم في سيناريوهات لم تجد من ينتجها، وبدأ نجاحه مع الكونترباص التي بثت كعمل إذاعي، قبل أن تجد طريقها إلى خشبة المسرح، في ميونيخ عام 1981، ومنذ ذلك التاريخ والمسرحية تحقق نجاحات ساحقة، حتى إنه ليس هناك مسرح في ألمانيا لم يقدمها، ما جعلها أكثر النصوص المسرحية تمثيلاً في ألمانيا، وكما يقول جريس فإنها خلال موسم عام 1984 عرضت أكثر من 500 مرة في 25 إخراجاً مختلفاً.لا يعود نجاح مونودراما «الكونترباص» إلى القيمة الرفيعة للنص فحسب - كما يذهب إلى ذلك جريس - بل إلى توظيف إمكانات المسرح بشكل ممتاز، فالمسرحية لا تتطلب إلا ممثلاً، يجلس طوال الوقت في غرفة فقيرة الديكور، إنها تتيح في الوقت ذاته لممثل في متوسط العمر أن يصول ويجول على خشبة المسرح، ليظهر مواهبه في دور غني بالمشاعر الإنسانية الهادئة والصاخبة، وقد ترجمت المسرحية إلى عدد كبير من اللغات، ووجدت طريقها إلى خشبات المسارح في أرجاء العالم.بالرغم من أن الموضوع غربي، فهو يتطلب من المخرج والجمهور معرفة جيدة بتراث الموسيقى الكلاسيكية، كما أنه قادر على مخاطبة الإنسان في كل مكان، لأن عازف زوسكيند ينجح في إفهامنا أن مشكلاته الشخصية والمهنية في الأوركسترا هي صورة لمشكلاتنا نحن، فالأوركسترا بالترتيب الهرمي، وكما يقول العازف الذي يجهل المشاهد اسمه، صورة طبق الأصل من المجتمع، فالمسرحية تتناول علاقات الحب والكراهية، التي تسيطر على الإنسان، إنه يكره شيئاً، لكنه لا يستطيع التخلص منه، يحبه ولا يستطيع التوقف عن توجيه اللعنات إليه. محبة العزلة ولد باتريك زوسكيند في مدينة تقع على بحيرة في منطقة جبال الألب في جنوب ألمانيا، ودرس التاريخ في جامعة ميونيخ، وكان والده كاتباً ومترجماً، وفي الفترة من عام 1968 إلى 1974 عمل في أعمال مختلفة، وكتب عدة قصص وسيناريوهات سينمائية، وكان يفضل العزلة بعيداً عن أضواء الشهرة، وكذلك كان يرفض الجوائز الأدبية حتى إنه في ليلة العرض الأول للفيلم المأخوذ عن روايته «العطر قصة قاتل» لم يحضر، وهو يعيش بين ميونيخ وباريس، متفرغاً للكتابة.
مشاركة :