أبشع وأسوأ ما يتعرض له الإنسان أن يخير بأن يستسلم لجور وقمع وتسلط النظام الحاكم أو يموت جوعًا، إذ إن أسلوب زج المعارض في السجن وتركه في المعتقل حتى يتعفن أصبح أسلوبًا غير مجدٍ، فكثير من المعتقلين السياسيين يظل متشبثًا بمبدئه ورأيه حتى يأخذ الله أمانته، أو يفرج عنه ليمارس دوره النضالي مرة أخرى. الأنظمة الجائرة والمستبدة ومنها نظام بشار الأسد وجدت أن مواجهة المعارضين السياسيين والناشطين لن يجدي بالقبض على الناشطين السياسيين ولا مواجهة المعارضة الشعبية حتى المسلحة منها بالمعارك وشن الحروب عليها ورمي البراميل المتفجرة فوق منازلهم فقط، فبالإضافة إلى ذلك انتهجت أسلوب أكثر قسوة وأشد إيلامًا على الإنسان وعائلته، ألا وهو فرض الموت جوعًا على سكان مدينة كاملة أو منطقة بمحاصرتها ومنع وصول الأغذية والأدوية لها مع استمرار شن المعارك وقذفها بالصواريخ ورمي البراميل المتفجرة. وقد كشفت منظمة العفو الدولية في تقرير نشر أمس أنّ سكان مناطق كاملة من المدنيين الذين كابدوا الحصار المروع وتعرضوا للقصف المكثف لم يُمنَحُوا خياراً، بموجب ما يُسَمَّى باتفاقات «المصالحة» بين الحكومة السورية وجماعات المعارضة المسلحة، غير النزوح من مناطقهم أو الموت. إن الحملة الحكومية التي تجمع بين الحصار، والقتل غير المشروع، والتهجير القسري، والتي انتزعت آلاف المدنيين من ديارهم وأرغمتهم على العيش في ظروف قاسية، لتمثل جريمة ضد الإنسانية. ويدرس التقرير، وعنوانه: «إما نرحل أو نموت›: التهجير القسري بموجب اتفاقات ‹المصالحة› في سوريا»، أربعاً من هذه الاتفاقات المحلية ويوثق ما صاحبها من انتهاكات ترجع بداياتها إلى عام 2012. وأدت هذه الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في الفترة الواقعة بين أغسطس/ آب 2016 ومارس/ آذار 2017 إلى نزوح آلاف السكان من ست مناطق محاصرة، وهي داريا، وشرق مدينة حلب، والوعر، ومضايا، وكفريا، والفوعة. وقد قامت الحكومة السورية بمحاصرة المدنيين بصورة غير مشروعة، وحرمتهم من الغذاء، والدواء، وغيرهما من الضروريات الأساسية، ونَفَّذَت هجمات غير مشروعة على مناطق كثيفة السكان. وارتكبت جماعات المعارضة المسلحة كذلك انتهاكات مماثلة، ولكن على نطاق أضيق. وقال فيليب لوثر، مدير البحوث وكسب التأييد للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية «كان الهدف المعلن للحكومة السورية هو هزيمة مقاتلي المعارضة، لكن استخدامها أسلوب ‹الاستسلام أو الموت جوعًا› دون مبالاة شمل تضافرًا مروعًا بين الحصار والقصف. وكانت هذه الأفعال ضمن هجوم ممنهج وواسع النطاق على المدنيين يرقى إلى الجرائم ضد الإنسانية. وينبغي لجميع الدول أن تتعاون لوضع حد لهذه الوصمة التي تسِم الضمير العالمي والمتمثلة في الإفلات المستمر من العقاب على مثل هذه الجرائم. وليس من طريقةٍ أبسط لإنجاز ذلك من توفير الدعم والموارد «للآلية الدولية المحايدة والمستقلة» التي أنشأتها الأمم المتحدة للمساعدة في التحقيق في مزاعم الانتهاكات وملاحقة المسؤولين عنها قضائيًا». ولم يكن للأشخاص الذين تعرضوا لهذه الانتهاكات المروعة من خيارٍ سوى مغادرة منازلهم جماعيًا. ونتيجة لذلك تعيش آلاف الأسر الآن في مخيمات مؤقتة، ولا تُتَاحُ لها إلا إمكانية محدودة للحصول على المعونة وغيرها من الضروريات الأساسية، فضلاً عن ضآلة فرص كسب الرزق المتاحة. وقال فيليب لوثر «إذا كانت الحكومة السورية وجماعات المعارضة المسلحة مثل حركة أحرار الشام الإسلامية وهيئة تحرير الشام جادة بشأن المصالحة، فعليها أن تضع على الفور حداً لهذه الممارسات غير المشروعة، وترفع الحصار، وتضع نهاية للهجمات على الآلاف من المدنيين الذين ما زالوا محاصرين في شتى أنحاء سوريا». ويستند التقرير على مقابلات مع 134 شخصًا أُجرِيَت في الفترة بين إبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول 2017، ومن بينهم بعض السكان النازحين الذين عايشوا الحصار والهجمات، والموظفين والخبراء العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية، والصحافيين، والمسؤولين في الأمم المتحدة. ودرست منظمة العفو الدولية كذلك عشرات من تسجيلات الفيديو وحللت الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية لتأكيد روايات شهود العيان. وطلبت المنظمة تعليقات على النتائج التي توصلت إليها من السلطات السورية والروسية التي لم ترد حتى الآن، ومن «حركة أحرار الشام الإسلامية» التي ردت.
مشاركة :