مع أنه يتم استحضار دول بعينها عند الحديث عما يسمى بـ"الربيع العربي" إلا أنه في الواقع كل الدول العربية منخرطة ومتورطة بفوضى الربيع العربي بشكل مباشر أو غير مباشر، بحيث يمكن تصنيف الدول العربية من حيث علاقتها بفوضى الربيع العربي إلى ثلاث فئات: 1- دول مستَهدَفة بهذه الفوضى وهي فلسطين، تونس، مصر، سوريا، ليبيا، اليمن، والعراق. 2- دول مشارِكة بشكل مباشر بالسلاح والدعم المالي واللوجستي لأسباب متعددة، وخصوصا دول الخليج العربي. 3- دول تبذل جهودا حتى تجنِب نفسها الوقوع في شراك الفوضى وتداعياتها وهي المغرب، الجزائر، موريتانيا، الأردن، ولبنان. يعتبر لبنان من الدول التي حاولت تجنيب نفسها فوضى الربيع العربي، إلا أن الجيوبولتيك جعله في عين العاصفة وفي هذا السياق جاءت استقالة رفيق الحريري . من المعلوم أن لبنان ومنذ الاستقلال وصياغة الميثاق الوطني 1943 وبسبب تركيبته الطائفية يقوم على توازنات وتقاسم وظيفي بين الطوائف، وتوازنات سياسية إقليمية ودولية. بالرغم من التجربة الديمقراطية الفريدة للبنان إلا أن الدول الغربية وخصوصا فرنسا كانت ضامنة التوازنات الداخلية والإقليمية التي تحافظ على استقلال لبنان وانتعاشه الاقتصادي. إلا أنه وبعد الحرب الاهلية اللبنانية 1975 تولت دول عربية وخصوصا سوريا والمملكة العربية السعودية هذا الدور. دشن اتفاق الطائف 1989 الذي رعته السعودية وجامعة الدول العربية منعطفا في المسيرة السياسية للبنان بحيث شكل ميثاقا وطنيا جديدا. فقد جمعت السعودية الفرقاء السياسيين اللبنانيين على طاولة واحدة بعد سنوات من الاستعصاء السياسي وخمسة عشر عاما من الحرب الأهلية وأعاد ترتيب العلاقة بين الطوائف ومؤسسات الدولة وأعاد للجيش هيبته وسلطته على كامل الأراضي اللبنانية، وضمنيا ألغى اتفاق القاهرة لعام 1969 الذي كان ينظم العلاقة بين الفلسطينيين والدولة اللبنانية. ولكن المهم في هذا السياق أنه اعترف لسوريا بصلاحيات واسعة بما يشبه الوصاية على لبنان، وآنذاك كانت العلاقة طيبة بين سوريا والسعودية. منذ ذاك التاريخ أصبح للسعودية دور رئيس تجلى في دعم المملكة لتولي رفيق الحريري الذي يحمل الجنسية السعودية رئاسة الوزراء عام 1992، مما أخرج لبنان نسبيا من دوامة الحرب الأهلية وحافظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان، سواء من خلال المساعدات المالية والاستثمارات التي تُقدر بالمليارات أو من طرف رئيس الوزراء رفيق الحريري الملياردير اللبناني السعودي، وكان هدف السعودية ضمان عدم اصطفاف لبنان في محور إقليمي مناهض لها. بالرغم من اغتيال رفيق الحريري بتفجير عبوة تزن ألف كيلو جرام في موكبه، وآنذاك توجهت أصابع الاتهام لحزب الله وسوريا وتم تشكيل لجنة دولية للتحقيق أعلنت في أكتوبر 2005 عن نتائج أولية ولكنها لم تنهِ عملها حتى اللحظة، بالرغم من ذلك استمر الدعم السعودي للبنان وخصوصا بعد تولي سعد الحريري رئاسة الوزراء في نوفمبر 2009. اندلاع فوضى الربيع العربي عام 2011 وامتدادها لسوريا وتدهور العلاقة بين سوريا والسعودية كان لها تداعيات خطيرة على لبنان وأخل بالتوازنات والتفاهمات التي أسس لها اتفاق الطائف والذي أدخلت عليه تعديلات في اتفاق الدوحة 12 مايو 2008، ولم يتمكن سعد الحريري من النأي بلبنان عن المحاور الإقليمية والاستحقاقات الإكراهية لفوضى الربيع العربي. شارك حزب الله اللبناني بشكل مباشر وقوي في الحرب الدائرة في سوريا إلى جانب الدولة السورية في مواجهة خصومها ومنهم السعودية، كما انحاز حزب الله سياسيا للحوثيين في اليمن المتحالفين مع إيران في مواجهة عسكرية شرسة مع قوات التحالف العربي بقيادة السعودية، أيضا التحالف الاستراتيجي السياسي والعقائدي بين حزب الله وإيران، كل ذلك جعل حزب الله يتصرف وكأنه صاحب السلطة في لبنان وبيده قرار الحرب والسلم وليس بيد الحكومة أو الرئيس. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما زار علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني لبنان في الثاني من نوفمبر الجاري والتقى بالحريري وصرح بتصريحات لم يُعَقِب عليها الحريري في حينها، واعتبرتها السعودية مستفزة لها وخصوصا أنها تزامنت مع إطلاق صواريخ من اليمن على مناطق استراتيجية في السعودية واتهمت هذه الأخيرة إيران بأنها تقف وراء العملية، آنذاك استشاطت السعودية غضبا لأنها وجدت أن كل ما قدمته من مليارات للحريري وللبنان لم يجد نفعا وأن لبنان ينزلق نحو المحور الإيراني السوري، وهكذا قررت معاقبة لبنان وسعد الحريري. في اليوم التالي لزيارة المسئول الإيراني للبنان استدعت السعودية على عجل سعد الحريري ومن هناك أعلن في الرابع من نوفمبر استقالته مما أثار ضجة كبيرة حول توقيتها ومكان الإعلان، وهي استقالة أظهرت الحريري وكأنه وكيل أو موظف سامي للسعودية في لبنان. الاستقالة ولا شك لها علاقة بالصراع بين السعودية وإيران، وهذا الصراع جزء من فوضى الربيع العربي، وعليه فإن لبنان يُجر إلى فوضى الربيع العربي بغير إرادته. تشكل الاستقالة إعلانا لنهاية اتفاق الطائف والتفاهمات والتوازنات الهشة التي تبعته، ودخول لبنان في مرحلة صعبة سيكون فيها للتدخلات الخارجية دور أكبر من التفاهمات والتوافقات الداخلية، واحتمال أن لا يعود سعد الحريري إلى لبنان في المدى القريب لا كرئيس وزراء ولا كمواطن عادي ما دام لبنان غير قادر على الاستغناء عن المال السياسي الخارجي، وقبل أن يتم فك الاشتباك والتداخل ما بين سلطة الدولة وسلطة حزب الله. د. إبراهيم أبراش أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر – غزة Ibrahemibrach1@gmail.com
مشاركة :