المتطرفون باتجاه تحميل الإنترنت مسؤولية تدمير وسائل الإعلام التقليدية، يتراجعون خطوة إلى الوراء عندما يصبح الكلام عن التجربة الحية التي يمثلها هذا الإنجاز للبشرية.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/11/25، العدد: 10823، ص(18)] جربت شركة صناعة التسجيلات الأميركية المسؤولة عن ملصقات الألبومات وتعداد التسجيلات الذهبية والبلاتينية، بداية عام 2016 أن تعيد شريط الكاسيت، وبالفعل صنعت كمية منه وبعد عقدين من انقراض الكاسيت نفسه وأجهزة استخدامه لحساب الأقراص المدمجة. لم تكن في كل الأحوال المبادرة تجارية وناجحة، لأن لا أحد بإمكانه إعادة العالم إلى الوراء لمجرد الحنين إلى تسجيلات الماضي، لكن مبادرة الشركة الأميركية بقيت خبرا مثيرا في وسائل الإعلام الغربية نشر باهتمام وكأنه فعلا ستعود أجهزة الكاسيت القديمة إلى المنازل، بينما لا أحد في الولايات المتحدة أو أوروبا شاهد في المتاجر من يسوق لأشرطة الكاسيت. مثل هذا الأمر عاد له الكاتب ديفيد ساكس في مقال ملفت بصحيفة نيويورك تايمز مستثمرا تسمية “الأنالوج” التكنولوجيا التماثلية التي يمكن أن تضم وسائل الإعلام التقليدية القديمة، وجعلها معادلا للرقمية، ليعيد الأمل بالإعلام التقليدي وأنه لم يفقد بعد مكانته، بل إنه مقبل على استعادتها يوما بعد آخر. ومع ذلك يرى ساكس في مقاله “التكنولوجيا الرقمية وتأثيراتها المدمرة” لا يعني ذلك أننا نواجه ضرورة الاختيار بين الرقمي والأنالوج، ويصف مثل هذا الاختيار بالمظهر الخادع للوضع القائم لأنه يتجاهل الطبيعة المعقدة للحياة على أرض الواقع. ويقترح بدلاً عن ذلك، الوقوف أمام ضرورة تحقيق التوازن الصحيح بين الاثنين الرقمي والأنالوج. إذا ما وضعنا هذا نُصب أعيننا، فإننا بذلك نكون قد قطعنا الخطوة الأولى نحو بناء علاقة صحية مع جميع صور التكنولوجيا، والأهم من ذلك مع بعضنا بعضاً. لم يذكر ديفيد ساكس مستقبل الصحف الورقية التي تعيش في السوق المريضة واختار الكتاب المطبوع مثالا على فكرته التي تشمل في مجملها كل وسائل الإعلام التقليدية التي باتت أكثر صعوبة وكلفة من نظيرتها الرقمية، إلا أنها تبقى تمثل تجربة ثرية لا يضاهيها أي شيء تقدمه الشاشة. ويقول “بذلك نجد أن حدود الأنالوج، التي جرى النظر إليها من قبل باعتبارها نقاطاً سلبية، تحولت اليوم إلى مزايا يقبل الناس عليها كثقل موازن للسهولة المفرطة في استخدام الرقمي”. لم يكن ديفيد ساكس أول من يدفع باتجاه العودة إلى الأصول بوصفها مصدرا قويا للمعرفة الكيسة، من دون التخلي عن التجربة الحية التي يوفرها الإنترنت للبشرية، فسبق أن وضع الكاتب البريطاني سايمون جنكينز “تصورا” لمرحلة ما بعد الرقمية من دون أن يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات.مقاومة التغيير موضوع مستمر، وهذا ما يعزوه مارتن بوشنر أستاذ الأدب في جامعة هارفارد إلى اعتراض مبكر على تكنولوجيا الكتابة من سقراط، الذي جادل بأنها “ستخلق النسيان في نفوس المتعلمين، لأنهم لن يستخدموا ذكرياتهم” وأشار في مقال تحليلي في صحيفة الغارديان إلى أن العصر ما بعد الرقمي سيكون بمثابة معادل تاريخي لأزمنة الراديو والتلفزيون والفاكس والصحيفة الورقية وبعدها الإلكترونية، من دون أن يقلل من مستقبل قيم القراءة الشائعة والاستماع والمشاهدة الحية للحفلات الموسيقية والغنائية. وضرب مثلا عن تراجع أرباح تسويق الاسطوانات الموسيقية خلال السنوات الأخيرة، فيما لم تتأثر الحفلات الموسيقية الحية “فقد أغلق في بريطانيا مثلا 40 متجراً لبيع الاسطوانات الموسيقية، في حين تذاكر حفلات ريحانة تباع بسعر 330 جنيهاً استرلينياً، والحصول على مقعد في حفل لمادونا يعادل ثمن شراء كل اسطواناتها الموسيقية”. واستشهد بتفسيرات علمية تشير إلى أن التطبيقات الإلكترونية للكمبيوتر تساهم في إبطاء النمو الطبيعي للدماغ، والإدمان على الإنترنت يضعف التجربة العقلية في تدرجها، فيما يسعى الإنسان بطبعه إلى الرقي بذاته وعدم الوقوع أسيرا في واقع افتراضي. هناك أيضا الكاتب روبرت ليفين المتخصص بالثقافة الرقمية عندما كال التهم للإنترنت وحمّله مسؤولية تدمير صناعة الثقافة عبر القرصنة الرقمية وتفاقم جشع الشركات الإلكترونية وسحق النتاج الموسيقي والسينمائي والصحافي. وقال في مقال بصحيفة الغارديان بعنوان “كيف دمر الإنترنت سوق الأفلام والموسيقى والصحافة” إن كبرى الشركات الأميركية لإنتاج المحتوى الموسيقي والسينمائي فقدت مواردها لحساب القرصنة المتصاعدة على الإنترنت. وأضاف ليفين مؤلف كتاب “رحلة بالمجان: كيف دمر الإنترنت صناعة الثقافة وكيف يمكن لصناعة الثقافة الدفاع” والذي صدرت طبعته الأميركية تحت عنوان “رحلة بالمجان: كيف دمرت الطفيليات الرقمية صناعة الثقافة وكيف يمكن لصناعة الثقافة الدفاع” أن كل الذي كان يباع صار مجانا سواء بشكل مباشر أو عبر القرصنة الإلكترونية. لكن مع ذلك، فحتى المتطرفون باتجاه تحميل الإنترنت مسؤولية تدمير وسائل الإعلام التقليدية، يتراجعون خطوة إلى الوراء عندما يصبح الكلام عن التجربة الحية التي يمثلها هذا الإنجاز للبشرية. لأنهم لا يتنازلون عن الكتابة وصناعتها بوصفها حسا يمتلك صوتا وروحا تضاف لها الرائحة والملمس عندما تكون كائنا ماديا محسوسا كالصحيفة والكتاب وليس رقميا افتراضيا أشبه بالابتسامات المفتعلة على فيسبوك. مقاومة التغيير موضوع مستمر، وهذا ما يعزوه مارتن بوشنر أستاذ الأدب في جامعة هارفارد إلى اعتراض مبكر على تكنولوجيا الكتابة من سقراط، الذي جادل بأنها “ستخلق النسيان في نفوس المتعلمين، لأنهم لن يستخدموا ذكرياتهم”. يُلخّص بوشنر الموقف السقراطي بأناقة: الكتابة، بالنسبة للمفكر اليوناني، كانت مجرد ظل صامت للكلام، طريقة تستوعب الكلمات لكن بدون صوتها، وأنفاسها، وروحها. كانت مجرد شيء آلي، تكنولوجيا. سقراط، شأنه في ذلك شأن زملائه الحكماء مثل بوذا (…)، لم يكتبوا في الواقع أي شيء، رغم أننا نعرفهم بطبيعة الحال من خلال كتابة الآخرين. من المستحيل أن نعرف ما سيكون رأيه في الأدب شبه الآلي على تويتر، لكن انتقاده سوف يتردد صداه، على الأقل، مع أي شخص استخدم تقويم غوغل، حسب توماس هيل بتقريره الملف عن مستقبل الكتابة في صحيفة فايننشيال تايمز. كاتب عراقي مقيم في لندن كرم نعمة
مشاركة :