مازال صحافيو الطراز القديم غير قادرين على الاهتمام بنصهم، وكأنهم يكتبون بخطوط رديئة على ورق رمادي من مخلفات الجريدة التي رسخت في ذاكرتهم!العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/02/25، العدد: 10554، ص(18)] مازال بيننا وبعدد أكثر مما يمكن تصوره من صحافيي الطراز القديم، يكتبون بأفكار وأدوات لم تعد تتناسب مع فكرة صناعة الرأي اليوم، أو كأنهم لا يطلعون على ما يتدفق بكميات هائلة من كتابات المدونين كمواطنين صحافيين يمتلكون القدرة والحس في التقاط الأفكار بطريقة مفيدة. صحافة الطراز القديم متوفرة بكثرة ليس فقط على المدونات الخاصة على فيسبوك أو المواقع الإلكترونية رديئة التحرير والنشر، بل في صحف شهيرة، مثل هذا الأمر انتبه إليه الدكتور هيثم الزبيدي في مقال سابق له في “العرب” عن المتعة الغائبة في المقال الصحافي، فثمة خلل ملموس في ما يكتب ويقدم على أنه مقالات: “تقنية الكتابة لا تقل أهمية عن الأفكار والآراء وهي من مقاتل الكتابة السياسية والثقافية في مطبوعاتنا. من طول الجملة إلى طول الفقرة، إلى علامات التنقيط، إلى الارتباك في الصياغة الخاصة بالجملة، هذه كلها أساسيات لا تجد الكثير من الاهتمام لدى كتاب المقالات”. لم يعد إنتاج الصحيفة يقوم على فكرة متشابهة يديرها عدد محدود من المحررين في غرفة أخبار صغيرة، ومطبوعة صغيرة باللونين الأبيض والأسود، ثمة ما هو أكثر من ذلك بكثير، في صناعة الأفكار وتداولها بطريقة لم تعد تتناسب مع صحافة ذات طراز قديم، وفق قول جوليا كاجيه، أستاذة وسائل الإعلام في كلية العلوم السياسية الفرنسية. لا أعني في ذلك فقط المهارات التكنولوجية في إعداد وتنضيد النص المكتوب والاهتمام بعلامات التنقيط، الشكل جزء مكمل للنص حتى قبل أن يصمم في متن الصحيفة، لأنه يعبر عن حس الكاتب في التعامل مع دلالة الكلمات، ويقدم مساحة مريحة للمحرر في قبول النص. مازال صحافيو الطراز القديم غير قادرين على الاهتمام بنصهم، وكأنهم يكتبون بخطوط رديئة على ورق رمادي من مخلفات الجريدة التي رسخت في ذاكرتهم! ليس هذا فقط، الأفكار الجاهزة صارت ميزة بالنسبة إليهم، وإعادة الجمل المكررة والمعروفة نوع من الثقة الباردة في استكمال النص، مثل هذا الأمر يعبر بامتياز عن صحافة الطراز القديم. يتسنى لي يوميا الاطلاع على أمثلة لكتّاب لهم شأنهم عندما تذكر أسماؤهم ودرجاتهم الجامعية وتاريخهم الصحافي وقائمة ما نشر لهم على مدار عقود…، لكن بمجرد أن تقرأ جملة لهم يتسنى لك أن تتوقع ما يقدمون عليه تماما في الجملة اللاحقة. الفكرة متداولة وشائعة بين الناس وتسقط ميتة بين القراء عند إعادة كتابتها، فما دورك أنت كصحافي في إعادة صناعتها وتأهيلها ثم تقديمها برؤية جديدة. هذا الأمر ينطبق أيضا على الذين لا يتوقفون عن تداول الأمثال الشعبية وإعادة ذكرها كلما تسنى لهم ذلك، بل يصر بعضهم على وضعها كعناوين لما يكتبون، ويبنون مقالاتهم على أمثال فلكلورية تمثل حديث الشارع ومتداولة بين الأميين وجلاس المقاهي، لكنهم في النهاية لا يقولون شيئا غير تكرار ما هو شائع، هذا نموذج آخر لصحافة الطراز القديم! حسنا، وصلني هذا الأسبوع مقال لأستاذ صحافة متمرس ويمتلك من الخبرة على مدار عقود في الصحافة الورقية والتلفزيونية، ما يجعله يرقى إلى أعلى الدرجات الأكاديمية، ويدير اليوم مشروعا إعلاميا يوصل خطابه إلى الملايين من المستخدمين. المقال ببساطة يتناول فكرة متشابهة في النظر إلى الحياة وتم تداولها المئات من المرات، ولو طرحتها على رجل أمي لأعاد عليك نفس الجمل التي كتبها زميلنا الصحافي المدجج بخبرة أربعة عقود! ليس هذا فقط حتى طريقة تنضيدها واستخدام علامات التنقيط لا يمتان بصلة لطبيعة الجمل المكتوبة. ماذا يعني هذا غير الفكرة الميتة التي كانت، ومازالت على نطاق كبير، في ملء المساحات بكلام مكرر وجمل طويلة مملة. لا يوجد أسوأ في صحافة اليوم من شغل مكان لا يقدم فيه الكاتب شيئا! مجرد شغل المكان والتحدث لاحقا أمام الآخرين عن مهامه كصحافي! لكنه يخاتل ويتردد عندما يتعلق الأمر بالحديث عما أنجز. هذا لا يعني بالطبع أن كل ما يمت لصحافة الأمس ممل ومن طراز قديم، ثمة “ديناصورات فاتنة” صحافيون رواد أعادوا ابتكار أنفسهم ونجحوا في تأهيل صورتهم وقدموا أفكارهم بصورة إعلامية متجددة. مذيع مثل ديفيد ديمبلبي (77 عاما) لا يشعر بالحرج وهو يتلقى تسمية “الديناصور الفاتن” بعد استمراره أكثر من ربع قرن في التقديم من شاشة هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، بل إنه الوجه الذي يستمر على مدار 18 ساعة متواصلة لنقل نتاج الانتخابات البريطانية منذ عام 1979، حتى أن آنا فورد قارئة نشرات إخبارية سابقة في “بي بي سي” وصفته بـ”الديناصور الفاتن” قائلة “أستغرب كيف يستطيع هذا الديناصور الفاتن الاستمرار في العمل مع بي بي سي مع أنني مهما دققت النظر لا أرى امرأة بنفس السن”. واقع الحال ليس العمر بقدر ما هو طريقة التفكير في صناعة صحافية متغيرة بحكم عوامل وتأثيرات الإنترنت، وتغير مزاج القراء وطريقة تقديم الأفكار التي لم تعد حصرا على الصحافيين أو “كهنة الحقيقة”. لا أحد ينتظر من الصحافيين أخبارا شائعة وأفكارا جاهزة، ثمة عالم متداخل يعرض الأخبار لحظة حدوثها وعصر رقمي أنهى الدهشة والمفاجأة عند الناس بتقريب الأقاصي وتعريف الشعوب على بعضها، وعلى صحافيي الطراز القديم أدارك ذلك، لتجنب السقوط في فخ التكرار الممل. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :