حتى لو حاولت جامعة الإمام بإدارتها الوطنية جداً سلخ جلدها بجراحات سريعة، بما يشبه الترقيع أو البتر لجريح في ساحة معركة، فإنها لن تستطيع عملياً أن تقنعنا بأنها قادرة على ذلك. بقدر قناعتنا بأنها الجامعة التي لم يكن يشق لها غبار في مضمار تخصصاتها الشرعية، بمقرراتها ومراجعها المعتمدة في مناهجها التعليمية، لذلك فقد كان الطالب يتخرج منها وقد غذي بمادة علمية شرعية ممتازة، ومعها شخصية الجامعة وبصمتها الخاصة، هذه البصمة غير المهادنة للعلوم والمعارف العلمية الأخرى، لم تكن مهادنة أيضاً للاختلاف، لذلك كانت تستخدم كل الأساليب التعسفية لفرز طلابها المنتسبين إليها، وملاحقتهم عقب قبولهم بسيف النظام الجامعي، غير مكتوب ذاك الذي كان يعبّر عنه أحياناً بالسيماء، وأحياناً أخرى بقيم الجامعة. وهذا تحديداً، ما دفع أحد أساتذتها أو مشايخها الكبار، عندما أقحمه أحد طلاب الجامعة الصغار، في جدل إعلامي مكشوف، أن يطلب منه الرحيل من الجامعة بصيغة إمرة ومتأمرة، قائلاً بحنق: «إن لم تعجبك جامعتنا فالترحل». هذه الجامعة، في حيز زمني طويل، استطاعت أن تنفذ استراتيجية مؤدلجة وفق رؤية إخوانية صرفة، تمكنت بها من حقن طلابها بأنانية مفرطة بالحساسية تجاه أي فكر يختلف معها، وبطريقة منظمة زرعت الأعين والآذان بين أوساط طلابها للتنبيش، بما يشبه محاكم التفتيش عن المخالفين والمختلفين، وقد يتعرض الطلاب إلى مساءلة، تشبه التحقيق غير المدون عن أفكارهم وقراءاتهم، بغية تصفيتهم، إما ترسيبهم بمواد معينة، أو مضايقتهم بالحضور والانصراف، وإن لم يقدروا على هذا وذاك، فثمة قائمة سوداء يعتمد عليها بحرمانهم من مواصلة دراستهم العليا حتى لو كانوا متفوقين. لذلك لا يجد الطالب الطموح بداً من مجاراة هذا التوجه نفاقاً أو تقيةً. بهذه الطرق التعسفية خرَّجت الجامعة أجيالاً لا تكاد أقوالها تصادق على أفعالها، وأشكالها لا تدل على مخابرها، كل شيء بدا في هذا الصرح التعليمي الضخم أشبه بالأرجوحة، حتى وقعت الكارثة وانكشفت «بيضتهم الإخوانية» وتداعت القيم والمبادئ التي كانت تؤسس لها. لذلك سارعت الجامعة من خلال إدارة جديدة وطنية تَسِمُ نفسها بالسلفية إلى أن تلملم فضيحتها بالطريقة التآمرية نفسها، وقد شهد بذلك عضو هيئة التدريس بالجامعة الأستاذ المساعد بقسم الأدب الباحث الأكاديمي بمركز الملك عبدالله لحوار الحضارات، الدكتور مبارك بن سعيد آل زعير في حديث له في صحيفة «سبق» الإلكترونية نشر في 27-5-2013، مشيراً إلى التحقيق الذي يُجرى للطالب المتقدم وهو ما يسمى «مقابلة تعرّف» وهي ليست كذلك، سواء لدرجة البكالوريوس أم الماجستير أو حتى الدكتوراه فيوضعون على حد سراط يمينه الجنة ويساره جهنم، ويسألون عن المشايخ الذين يستمع إليهم الطالب المتقدم، والقنوات التي يتابعها وماذا يقرأ ولمن، وليس المقصود من هذا التحقيق معرفة المحتوى العلمي الحقيقي للطالب بقدر ما هو التنبيش الصارم والدقيق في أجندة الطالب السياسية والفكرية والبحث عن تلك خطوط المتقاطعة والمتباينة مع منهج الجامعة الجديد، وقد استبعد مجموعة من الأكْفاء من حرم الجامعة بما يشبه التطهير للوثة قد تلحق بالجامعة كما حدث سابقاً من هؤلاء، ولم تفطن إدارة الجامعة وهي تتقصد الإخوانيين المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمون العالمية أن إداراتها المتعاقبة قد وضعت مناهج كاملة لاستقطابهم، فلم يكن الخلل بالرجل قدر ما كان بذاك المنهج الذي دعم وعزز من الوجود الإخواني داخلها، لذلك فإن هذا الذعر المتحكم بقلوب الإدارة الوطنية الحالية المذعورة، ليس إلا مبالغة فجة في انتمائها الوطني الذي لن يصل بالجامعة إلى منحدر وعر، وقد كان الأجدر بهذه الإدارة أن تضع مناهجها وفق رؤية علمية غير مستقطبة إلى جهات حزبية معينة، وبمقدورها أيضاً أن تضع أنظمة صارمة ضد كل من يحاول الخروج عن رسالة الجامعة ومناهجها العلمية، أما بهذه الطريقة الاستعراضية المكشوفة فلن تصل إلا إلى مزيد من الشانئين والكارهين لها، وهنا يقع التأليب المحذور، فهل تريد الجامعة اليوم أن تقنعنا بأنها تقوم بنتف ريشها كالصقور بغية التجدد والقوة، أم أنها تبحث عن وسيلة تشبه جلد الذات على احتضانها ورعايتها الأولى لجماعة «الإخوان»، وتثبت براءتها من الماضي حتى اصطبغت بهذه الحركة مناهجها، وعقول طلابها وأساتذتها، وإن كانت الجامعة قادرة اليوم على تعديل مناهجها وفق رؤيتها الوطنية المستحدثة فإنها لن تستطيع من خلال البتر الجراحي المرتجل لاستئصال شأفة الإخوانيين والجهاديين، أو لنقل على الأقل بعض أفكارهم التي لا تزال متلبثة في عقولهم، وقد رأينا وسمعنا عن طلاب من جامعة الإمام التحقوا بالجماعات الجهادية المسلحة في سورية والعراق كجماعة «النصرة» و«داعش». أليس من الأجدر بالجامعة عوضاً عن الانتقال من طرف إلى طرف نقيض بهذه الطرق التعسفية أن ترفع من قيمها العلمية الحقيقية، وألا تصطدم بنفسها وتجبر طلابها وأساتذتها على ممارسة النفاق واستخدام التقية كما كان يمارس إبان سيطرة «الإخوان» على مفاصل الجامعة، كي تمر من قنطرة المفتشين والمحققين؟ اليوم أساتذة الجامعة وطلابها ينقسمون على إدارتها الحالية ويرفعون شكاواهم إلى مقام خادم الحرمين الشريفين تظلماً من كل الإجراءات التعسفية التي تقوم بها الجامعة ضدهم. كان أمام الجامعة فرصة ثمينة -ولا تزال- ممثلة في الكراسي البحثية والعلمية ذات الموازنات الكبيرة ككرسي الأمير نايف لدراسات الوحدة الوطنية، وكرسي الأميرة العنود، وكرسي الأمير محمد بن فهد للمبادرات الشبابية، وكرسي عبدالرحمن الجريسي لدراسات حقوق الإنسان. أقول كان بمقدور الجامعة أن تمارس دورها الحقيقي من خلال هذه الكراسي وتدفع بعجلة الأبحاث والدراسات العلمية الرصينة لما وضعت من أجلها وأخصها ظاهرة الغلو والإرهاب وتستنسل منها دراسات تُعنى بقيم الوطن والإنسان الحقيقية وتفعيلها عوضاً عن المؤتمرات الخطابية ذات البعد الإعلامي التي لا تتجاوز قاعات المحاضرات. وإحقاقاً للحق فقد أحسنت جامعة الإمام صنعاً بفتح أقسام بتخصصات علمية تطبيقية، وهذا أدعى إلى أن تتحول الجامعة لأن تكون متنوعة وأن تتخلى عن وصايتها الدينية وتتيح الفرصة لكل من ابتغى إلى العلم سبيلاً بغض النظر عن الاتجاهات الدينية أو المذهبية، وتنزع عنها صفة الإسلام الشمولية لتكون جامعة الإمام فقط. * كاتب وروائي سعودي.
مشاركة :