«الهيئة» اسم علم يدل على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تذكر مفردة إلا كان المقصود هي، أما بقية الهيئات المختلفة فعليها التعريف الكامل حتى تتبين هويتها. «الهيئة» موجودة في السعودية منذ عام 1925 تقريباً من دون أن يظهر عليها اعتراض واحد، وكانت تمارس عملها بحرية كاملة ولم تتغير صورتها إلا منذ منتصف الثمانينات مع تزايد نشاط «الصحوة» وهيمنتها على المنابر لتحيل جانباً منها إلى ذراع تنفيذية في إطار ما تسميه «الحرب على العلمانية»، فأدخلت إليها المتطوعين وزاد نشاطها الاستفزازي في إطار استفزاز الحكومة أساساً، وأنها متخاذلة في محاربة الفساد الأخلاقي، وشهدت الأعوام الـ 20 الماضية تجاوزات شتى أكبرها وأضخمها حريق مدرسة البنات في مكة عام 2002، ومنعها الإسعاف من إنقاذ الطالبات بحجة أن لا مَحرم معهن. أدت هيمنة «الصحوة» إلى تقليص دور الرئيس في المؤسسة وتغييب أطرها التنظيمية واعتمادها على التوصيات والتزكيات الخارجية التي تقنن العمل وشروطه، ووضعت «الهيئة» في حال عداء مع المجتمع بسبب انتهاكات المحتسبين المتطوعين وعدم كبحها، ما جعل المؤسسة ذات سطوة مرعبة تتقاصر دونها هيبة المباحث بصفتها مؤسسة أمنية سرية. وتحتفظ الذاكرة السعودية بقصص كثيرة لاقتحامات أعضاء الهيئة واتهامهم للناس، حتى أن الرجل وزوجته لا يمكنهما الخروج إلى مكان عام من دون حمل ما يثبت أنهما زوجان وليسا عشيقين. فجأة تحولت «الهيئة» من سفينة النجاة إلى الصف الليبرالي لمجرد أن رئيسها الشيخ عبداللطيف آل الشيخ عمل على أن تكون مؤسسة منضبطة تحفظ الأخلاق وتمنع الفساد من دون تعدٍ على حقوق الناس واتهامهم بالظن، وأبعد المتطوعين وحدّد المهمات المناطة بالأعضاء، وأعاد بناء الثقة بينها وبين المجتمع، وهو ما لم يرضِ الراغبين في أن تكون سوط عذاب وتخويف، وأداة فاعلة ومؤثرة في الصراع الصحوي مع مناوئيهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الطعن في شخص الرئيس واتهامه بشتى التهم تأسيساً لفكرة زيغ «الهيئة» عن مسارها الطبيعي وتخليها عن دورها الأخلاقي، ولعله الوحيد الذي واجه حرباً من داخل المؤسسة بسبب صرامته وحزمه وجديته في فرض النظام على الجميع، وحرصه على أن يكون العمل نقياً من الشوائب. ما فعله الشيخ عبداللطيف أنه أعاد هيبة رئيس المؤسسة، وأصبح ضابط خطواتها، وواجه ما يمكن تسميته قوى الحرس القديم الذي ران على «الهيئة» أكثر من عقدين مؤكداً أن للنظام أصوله التي لا يمكن تجاوزها، وهو ما لم يكن يستطيع فعله لولا الدعم القوي الذي منحه صلاحيات التصحيح كاملة. في عام 2007 أعلن الرئيس الأسبق الشيخ إبراهيم الغيث «افتتاح إدارة للأنظمة باسم النظم والتعليمات ستكون مرجعية لجميع الموظفين في ما يخص التعليمات، حتى لا تحدث تجاوزات مخالفة لأنظمة الهيئة، وتعليمات ولي الأمر» مؤكداً أنها جهاز حكومي وليست جمعية تعاونية. وقال حينها وفق صحيفة «اليوم» في رده على أحد الأسئلة «إن هناك فتوى للشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ذكر فيها أن رجال الحسبة لا يحتاجون إلى مزكين لهم في شهادتهم، ولم يذكر بأنهم لا يحاكمون، وهذا ما فهم خطأ من بعض الإعلاميين». يحتج مناوئو الشيخ عبداللطيف بأن الإعلام يحبه وكأن الإعلام فصيل صهيوني. الحق أن المجتمع بأكمله اقترب من «الهيئة» واطمئن إليها، ولعل الزيارات التي تقوم بها مجموعات من الشباب إلى مراكز الهيئة دليل على هذا التحول اللافت من حال العداء والخصومة إلى التآلف. أما إنجازات الهيئة في التطهير الأخلاقي فزادت ولم تنقص، كما أن مجالات عملها توسعت وتطورت وأصبحت رؤية أعضائها في أي محفل علامة ارتياح وسلامة من الأذى. الصراخ ضد «الهيئة» حالة وجع وليست غيرة، لأن المملكة لم يتبدل خطها منذ قيامها، ولعل المفارقة أن الملك المؤسس عيّن الشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ أول رئيس لهذا الجهاز حتى قبل أن ينشأ له أي تنظيم. الصامتون لا خصوم لهم لأن لا مواقف لهم، أما الفاعلون والعاملون، فمن الطبيعي أن يكثر خصومهم كلما أمعنوا في إعادة ضبط المسار وتصحيح الأخطاء، ومهما كثرت السهام فإنها لا تعيق المسيرة.
مشاركة :