خصوصية هذا الرسام تكمن في أنه قرر أن يحتفي بالرسم بالدرجة نفسها التي يحتفي بها بالحياة، لم يكن يهمه أن ينقل الحياة من خلال الرسم بقدر ما كان يهمه أن يقود الرسم إلى الحياة. العربفاروق يوسف [نُشرفي2016/12/11، العدد: 10482، ص(10)] الرسام في عزلته لندن - تبحث عن رضا بالطيب فلا تجده. ولكن عليك ألاّ تبحث عنه في مكان بعينه. كائن يصلح للذكرى هو. كنا نسلّي أنفسنا برؤية شبحه وهو ينسل قريبا منا، وبعيدا عنه، باحثا عن بقعة ضوء، شعر أنها ضربت بخفة عينيه ثم اختفت. الرسام التجريدي كان واقعيا في بحثه عن مرجعياته. لا تزال لوحته مبتلة قال يومها “سأرسم البحر، لكن ليس بأسلوب تيرنر” في إشارة منه إلى الرسام البريطاني الشهير الذي شغف برسم البحر. حين عاد بعد ساعات كانت لوحته لا تزال مبتلة. أخبرنا أنه أثر المياه. حدثني ذات مرة عن أساليبه الثلاثة. أسلوب له شخصيا وثان من أجل الفن وثالث هو ما يعتاش منه، ذلك لأنه يوجهه للسائحين الغربيين. كنت صغيرا يومها. صغيرا في العمر وفي فهم الحياة بمقياس ما تعنيه من ضرورات عيش. لذلك شعرت بالاستياء مما قاله بوضوح. وكنت ظالما في حكمي عليه. فالرسام الطيب لم يخدعني. كان يكلم نفسه من خلالي. التقيته عام 1992 في المحرس، وهي بلدة صغيرة على المتوسط، تنام قبل النوم برعاية ابنها يوسف الرقيق، حارس مهرجانها الفني. كان صديقنا المحبوب الأكبر سناً. قاسم الساعدي ومحمد الجالوس وأنا. لم نفهم كيف يمكن أن يكون لفنان أساليب ثلاثة. لقد عطل بالطيب خيالنا ببداهة مشروعه. حين عدت إلى بغداد صرت أفكر فيه بطريقة مختلفة. تذكرت أن قصر قامته جعله يبدو كما لو أنه يبحث عن شيء ما في الأرض لا يزال يشده بلمعانه. وصرت أفكر في الأشياء التي تتحول من خلال يديه إلى مساحات تجريدية. أذهلني صدفه في التعريف بنفسه. لم يكن في حاجة إلى أن يخفي شيئا. هو رجل من غير أقنعة. بعد سنة من لقائنا المشدود مثل أوتار كمنجة توفّي بالطيب. بالطيب يذهب إلى خلاصه بخلاصات مساحاته اللونية التي تبدو دائما كما لو أنها رسمت لإخفاء شيء ما ولد رضا بالطيب عام 1939. درس الخزف بمدرسة الفنون الجميلة بتونس. ثم ذهب بعدها إلى باريس للإقامة في مدينة الفنون. أبرز محطات حياته وهي قليلة، أنه حصل عام 1968 على الجائزة الأولى في مجال الفنون بمدينة تونس وأقام معرضين رئيسيين؛ الأول عام 1981 في قاعة ارتسام وهو معرضه الشخصي الأول والثاني في رواق الفنون بالمنزه السادس بتونس وهي القاعة التي أنشأها وأدارها رضا العموري الذي أعادني إلى رضا بالطيب بعد ربع قرن من لقائنا الغرائبي. لعب العموري معي لعبة ماكرة. لقد جعلني ألقي تحيتيْ الصباح والمساء على صديقنا بالطيب تلقائيا. وها أنذا أكتب مقالي عنه في ما تظهر لوحته في المرآة أمامي. ذلك لأن تلك اللوحة تحتل جزءا من الجدار الذي يقع خلفي في غرفتي بفندق صدر بعل بالحمامات. كان العموري قد أقام أكثر من خمسة معارض شخصية لبالطيب، بعد أن كان الرسام قد شعر بالخيبة من الحياة الفنية في بلده إثر عودته من باريس. أخرجه العموري من عزلته الفنية، غير أن عزلته الشخصية كانت أشبه بالقدر الذي لم يستطع الإفلات منه. وكما يبدو فإن بالطيب الذي تفرغ للرسم، من غير أن يعمل في أيّ مجال آخر كان يضيق ذرعا بالمقاييس الاجتماعية التي تتحكم بسوق الفن. لذلك لجأ إلى أن يصنع مقاييسه الشخصية بمعزل عما كانت السوق تشهده من سباق محموم بين الفنانين، غلبت عليه روح مستميتة في مسايرة الرائج والمربح والمريح بالنسبة إلى الذائقة الشعبية. فن بالطيب يشبهه، من جهة تمنّعه وعدم استجابته لشروط السوق، بالرغم من أن الفنان نفسه كان يعترف أن جزءا من وقته كان مخصصا للسوق. كنت أراه يمشي وحيدا وهو يكلم نفسه. هل كان يرسم بالطريقة نفسها؟ عالم لم يرسم بعد برهافة وخفة كان بالطيب يتنقل بين الشكل واللاشكل، بل وبين التجريد والتشخيص. رسم بالطريقة التي تعجبه ولم يكن معنيا بما يراه الآخرون من فنه وفيه. كان يختبر أدواته ومادته وتقنياته في كل مرة يرسم فيها في ظل شعور عميق بالحرية. كان يثق بحريته وهو الذي تربّى على تعاليم مدرسة باريس التي عثر على بقاياها موزعة بين قاعات، شهدت عروضا لنيكول دي ستايل، الرسام الروسي الذي انتحر بجنسية فرنسية. يذهب بالطيب إلى خلاصه بخلاصات مساحاته اللونية التي تبدو دائما كما لو أنها رسمت لإخفاء شيء ما. تكمن حقيقة ذلك الشيء في شعور المتلقي بالنشوة وهو يغادر عالم حواسه المباشرة، ليتبع الرسام في تجليات ما لا يُرى من حقائق الجمال. هذا رسام يصبر كثيرا على ما لا يرسمه ليقتنص فرصة الدخول إلى عالم يعده مثاليا للعيش. يستغني المتلقي وهو يرى رسوم بالطيب عن ذلك العالم الذي لم يُرسم. ذلك لأن الرسام كان قد سبقه إليه والتقط خلاصته الجمالية. عزلته الشخصية كانت أشبه بالقدر الذي لم يستطع الإفلات منه رضا بالطيب هو نفسه خلاصة متأخرة لتجربة الرسم الحديث في تونس التي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر. صحيح أنه لم يلتفت إلى الوراء، مثلما فعل آخرون، غير أنه تعلم من أسلافه أن يكون معاصرا. الأمر الذي جعله يستجيب بتلقائية لإلهامه. ولكن هل كان بالطيب رساما تونسيا إذا ما عدنا إلى قواعد الهوية الفنية التي كرستها تجارب أولئك الأسلاف؟ لا فكاهة ولا فجائع لا يشبه رضا بالطيب إلا نفسه. إنه نتاج ذاته والمؤثرات الفنية الفرنسية التي ألقت بظلالها على تجربته. لا شيء من عمّار فرحات أو يحيى التركي وسواهما من رواد الرسم في تونس في عالمه الذي لم يكن معقدا، حين النظر المباشر إليه. لم يرسم بالطيب الحياة اليومية ولا الناس العاديين ولا الأسواق والمساجد والأعراس والألعاب الشعبية. كان لديه ما يرسمه خارج ذلك وهو لا يقل احتفاء بالحياة. خصوصية هذا الرسام تكمن في أنه قرر أن يحتفي بالرسم بالدرجة نفسها التي يحتفي بها بالحياة. لم يكن يهمّه أن ينقل الحياة من خلال الرسم بقدر ما كان يهمه أن يقود الرسم إلى الحياة. كانت حياته الغامضة مختبر تجاربه في الرسم. وهو رسم ليس صعبا إلا إذا طلبنا منه أن يهبط إلى مستوى الفهم. بحساسية مرهفة انتزع بالطيب من الحياة حقها في أن تكون القاعدة، ليُحلّ محلها الرسم. هذا رسام رسم كل شيء، لا من أجل أن يصوّره بل لكي يستحضر قوته. قوة الشيء التي تكسبه القدرة على مقاومة الزمن. كما الأيقونات تقاوم رسوم بالطيب الزمن، بفجائعه وفكاهاته. لقد نأى بالطيب برسومه عن الانفعالات المباشرة، فكان المطلق هدفه. يعدنا بأنه سيكون هناك وعلينا أن نلحق به وقد أسعدنا بما وضعه أمام أعيننا من لقى بصرية. إنها لقى الرجل الوحيد الذي انتصر على وحدته بشعور عميق بالسعادة. أظن أن رضا بالطيب قد مات سعيدا عام 1993. :: اقرأ أيضاً
مشاركة :