لا بد أن يتنبّه النقاد ومؤرخو الفكر اليومي، والظواهر الأدبية والفكرية إلى دلالة هذه العودة المحمودة للفلسفة لتكون الضوء الهادي للعقل في ظلام التطرف والعنف.العرب أمين الزاوي [نُشر في 2017/11/26، العدد: 10824، ص(10)] في سبعينات القرن الماضي كان الحقل الثقافي والأدبي، في ظل حرارة صعود المدّ الوطني وقوة حضور الحراك الثوري في أفريقيا والعالم العربي، يتميز بأمرين أساسيين هما: أولا طغيان المقاربات الأيديولوجية ذات البعد الماركسي والاشتراكي لجميع الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والجمالية، وثانيا على المستوى الأدبي كان الصوت الشعري المنبري من خلال قصيدة الشعر الحر أو الشعر التقليدي هو الطاغي على الحياة الثقافية الجمالية. لقد استولى الشعراء على اختلاف تياراتهم الجمالية على مجمل الفضاءات الثقافية والمنابر الإعلامية، وأضحت الساحة الأدبية تلد يوميا العشرات من الشعراء ليتم تكرسيهم في اليوم التالي إعلاميا بالمقالات والحوارات ونشر القصائد في الصحف والمجلات وإذاعتها على أمواج الراديوهات. في هذه الفترة كان الشعر هو الطاقة الثقافية الكبرى التي يتغذى منها وعليها الخطاب السياسي الوطني والقومي والاشتراكي، وفي كل هذا كان الشاعر هو الصوت الأول، يُحتفى به إذا كان متوافقا مع خط السلطة ويُرمى به في السجن إذا كان في المعارضة. كان الشاعر إلى حد كبير هو صوت ضمير الشعب وصوت الأنظمة السياسية في الوقت نفسه. كان الرهان عليه كبيرا والحذر منه كبيرا أيضا. وعرفت الساحة الأدبية العربية أصواتا شعرية متعدّدة ومتجددة، وكان الشعر الفلسطيني يمثل حالة خاصة في هذا المشهد الأدبي بإيقاعات مختلفة من أبوسلمى إلى محمود درويش وفدوى طوقان مرورا بمعين بسيسو وخالد أبوخالد وأحمد دحبور وسميح القاسم وتوفيق زياد ومريد البرغوثي.. كما أن الجنوب اللبناني أنجب حالة شعرية خاصة ومتميزة سجلت نوعا من الخصوصية في الشعرية العربية في السبعينات، ومن بين الأسماء التي عرفت حضورا واستقبالا كبيرين لدى القارئ من المحيط إلى الخليج حسن العبدالله ومحمد العبدالله وحبيب صادق وياسر بدرالدين ومحمد علي شمس الدين وعبدالكريم شمس الدين وجودت فخرالدين وشوقي بزيع وإلياس لحود. وفي الشعرية المغاربية ظهر جيل جديد من الشعراء بالفرنسية والعربية من أمثال عبداللطيف اللعبي وجمال عمراني وجان سيناك ويوسف سبتي والطاهر جاووت وأحمد حمدي ومحمد بنطلحة ومحمد بنيس ومحمد الأشعري.. كانت هذه الأصوات مؤثرة في الساحة السياسية ومساهمة في شحذ الوعي السياسي في الجامعات وحتى داخل الأحزاب السياسية المعترف بها أو المحظورة، خاصة الأحزاب اليسارية الماركسية والتروتسكية.تخطيط: ساي سرحان ومع نهاية القرن العشرين ومطلع الألفية الجديدة تغيّرت معالم الحقل الأدبي ومعه تغيّر الفضاء السياسي، فمع أحداث الجزائر التي انطلقت في أكتوبر 1988 ثم ظهور ما سمّي بثورات الربيع العربي المليئة بالغضب والقنوط السياسي والعطش إلى الديمقراطية وانتحار الحلم الفردي والجماعي انحسر الخطاب الوطني والاشتراكي ومعه تراجع الخطاب الشعري ليفسح المجال أمام خطابات قوى الإسلام السياسي بكل تلويناتها المتطرفة والغريبة، ومعه تراجع أيضا الخطاب الأيديولوجي الاشتراكي السوسيولوجي، وبالمقابل ظهر وتفشى الخطاب الفقهي على الأدب وعلى السياسة، وظهرت ما تسمى بالتجمعات وجمعيات واتحادات الأدب الإسلامي. وشيئا فشيئا عاد الحقل الأدبي العربي والمغاربي للبحث عن أسلوب آخر للتعبير فوجد في الرواية بديلا عن الشعر، واختفت أو قلت الفضاءات الشعرية وتحول الروائي إلى صوت الثقافة والإبداع: حنا مينة، رشيد بوجدرة، جمال الغيطاني، أمير تاج السر، إلياس خوري، إبراهيم الكوني، أحمد المديني، خليل صويلح، أحلام مستغانمي، شكري المبخوت، بوعلام صنصال، ربيعة جلطي، هيفاء بيطار، وعلي بدر.. وبدأ الاحتفال بالرواية كخطاب أدبي بديل في البلدان العربية والمغاربية، وظهرت المئات من النصوص الروائية. وما كرس هذا الظهور وشجع عليه هو تلك الجوائز التي رصدت لهذا الجنس الأدبي من البوكر إلى جائزة الشيخ زايد إلى كتارا إلى جائزة نجيب محفوظ إلى جائزة الطيب صالح وجائزة آسيا جبار وجائزة محمد ديب وغيرها. ومع إخفاق الربيع العربي، سياسيا وجماليا، بدأ الخطاب الديني يتراجع ليواجه بصعود خطاب الفلسفة التي تعود مرة أخرى بعد ثمانية قرون لتقف من جديد خصما وندا للشريعة. أعتقد ومن خلال بداية ارتفاع منسوب قراءة كتب الفلسفة في العالم العربي وعودة صوت الفيلسوف في تونس من خلال “مجالس الحمامات” التي يشرف عليها الفيلسوف فتحي التريكي وفي الجزائر، التي كانت أول بلد عانى من ويلات الإرهاب، من خلال نشاطات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية التي يرأسها الأستاذ عمر بوساحة ومن خلال منتدى الأنوار للفكر الحر الذي يشرف عليه الأستاذ سعيد جاب الخير. كل هذه المؤشرات تعلن أن الزمن القادم هو زمن الفيلسوف وزمن الفلسفة التي تستطيع وبكل تأمل أن تناطح الشريعة وتواجه بعمق خطابات الإسلام السياسي، وفي هذه المعركة الجديدة ما بين الفلسفة والشريعة نتذكّر المعارك الساخنة التي خاضها الفلاسفة المسلمون ضد الفكر التكفيري الذي حملته الشريعة وفقهاؤها على مدى قرون، وتسند الروايةُ الفلسفةَ في معركة التنوير هذه، باعتبارها الخطاب الأدبي القادر على احتواء الأسئلة الوجودية والاجتماعية من خلال ملاحقتها لليومي والتاريخي على السواء. من هنا، لا بد أن يتنبّه النقاد ومؤرخو الفكر اليومي، والظواهر الأدبية والفكرية إلى دلالة هذه العودة المحمودة للفلسفة لتكون الضوء الهادي للعقل في ظلام التطرف والعنف، ومغزى هذا التحول. روائي وأكاديمي من الجزائرأمين الزاوي
مشاركة :