يتّجه لبنان للخروج من «الوقت المستقطع» بين عاصفتيْن، واحدةٌ بلغتْ ذروتها في الاستقالة «الاضطرارية» لرئيس الحكومة سعد الحريري من الرياض في الرابع من الشهر الجاري، وثانية لن تنتظر طويلاً بعد الإعلان عما تَيسّر من «مَخرجٍ» يُعلن الإسبوع المقبل لعودة الحريري عن استقالته. فالمنطقة التي تغادر «الرمادية» في الشوط النهائي من صراعٍ مُقْبِلٍ على فصولٍ أكثر حماوة في سورية واليمن، ستجعل لبنان دائم الإقامة في عيْن العاصفة. وبدا واضحاً أن المشاورات فوق الطاولة وتحتها التي جرتْ في بيروت وعبر قنواتٍ مع الخارج أفضتْ الى تَفاهُمٍ بـ«الأحرف الأولى» على «رسْمٍ تشبيهي» لمخرجٍ يعيد الحريري عن استقالته ويَنتظر إعلانُه عودةَ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من زيارة لإيطاليا يبدأها اليوم، على أن يكون الأسبوع الطالع موعداً لطيِّ واحدةٍ من أكثر الأزمات السياسية وطأةً وغرابةً، أي الاستقالة التي جرْجرتْ أزماتٍ علنية ومكتومة. ولم يعد خافياً أن «أصْل الأزمة» كان اعتراض المملكة العربية السعودية، وبفائضٍ من الغضب، على الأدوار العسكرية والأمنية التي يضطلع بها «حزب الله» في العالم العربي كـ «رأسِ حربةٍ» في تَمدُّد النفوذ الإيراني، خصوصاً في اليمن وسورية، الأمر الذي تُرجم باستقالةٍ كان يتفاداها الحريري، قبل أن يعود إلى بيروت على متنِ وقائع جديدة أفضتْ إليها أدوارٌ ديبلوماسية دولية وعربية أرادتْ المزاوجة بين الحاجة القصوى لحفْظ الاستقرار في لبنان، وبين الحدّ من توريط «حزب الله» للبنان في الصراع الكبير. وأوحتْ المداولات في بيروت أن «حزب الله»، الذي فهم الرسالة من جهة ويرغب في تأمين مَخرج ملائم للحريري تفادياً للأسوأ من جهة أخرى، كان قدّم ما يشبه «الإعلان الرسمي» عن أن لا وجود عسكرياً له في اليمن وهو يتحضّر للانسحاب من العراق، ولم يمانع من إسناد رئيس الجمهورية بتوليفةٍ لرسْم حدود «النأي بالنفس» تقوم على عدم التدخل في شؤون دول الخليج وعدم التعرّض للمملكة العربية السعودية والانسحاب التدريجي من ساحات المنطقة. وبهذا المعنى فإن «حزب الله»، الذي يَعترف خصومُه قبل حلفاؤه بـ «براعته السياسية»، أراد إمرار المَخرج بلا أثمان فعلية. فهو كان أَنجز مهمته في اليمن برفْد الحوثيين بكل ما يحتاجونه من خبرات وتدريب، كما أنجز مهمّته في العراق الذي تستعيد فيه حكومتُه زمام المبادرة، في الوقت الذي يجعل وجوده في سورية خارج أي مساوماتٍ نظراً لدوره المحوري في إطار صراعٍ إيراني - أميركي، يرجّح اشتدادُه في سورية في المرحلة المقبلة. وثمة مَن يعتقد في بيروت أن المرونة الكلامية التي يبديها «حزب الله» في صوغ مَخرج «النأي بالنفس» الذي يريده الحريري للعودة عن استقالته لا تعدو كونها براعة تكتيكية لا تتعارض مع استراتيجية «نكون حيث يجب أن نكون»، التي غالباً ما تحدّث عنها الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، الذي لم يُخْفِ يوماً أنه يقاتل في إطار مشروعٍ إيديولوجي يحمله إلى حيث يجب أن يكون. وقراءةٌ من هذا النوع لِما كشفتْ عنه استقالة الحريري، في مغزاها الإقليمي والدولي، وملاقاته من «حزب الله» بخطوة تكتيكية لا تنطوي على تغييراتٍ، لا في الأداء ولا في المشروع، تفضي إلى خلاصة يصعب تجاهلها، وهي أن إفلات البلاد من عواقب جولةٍ من الصراع لا يعني نهاية هذا الصراع، المرجّح اشتداده في لحظات «البيع والشراء». ومن هنا، يجري رصْد موقف الرياض من المَخرج الذي ستُستكمل المشاورات في شأنه من خلال لقاءات سيعقدها الحريري في الساعات المقبلة والذي سيتبلور رسمياً في جلسة تعقدها الحكومة الأسبوع المقبل من دون أن يُحسم إذا كانت صيغة الاتفاق ستكون على شكل «إعلان» يُلحق بالبيان الوزاري ويؤكد ثوابت النأي بالنفس عن صراعات المنطقة والخلافات العربية مع ربْطه بخطاب القسَم وكلمتيْ عون أمام الجامعة العربية في فبراير الماضي وأمام القمّة العربية في عمان. ومن شأن مشاورات الحريري حسْم بعض النقاط تحت سقف مرتكزات التفاهم الذي يقوم على عدم التدخل في الشؤون الخليجية وعدم التعرض للسعودية والانسحاب التدريجي من أزمات المنطقة، وسط معلومات عن أن رئيس الحكومة يريد أن يَخرج بخطوات ملموسة تسمح له بمخاطبة العرب، كما جمهوره، بأنه حقق مكتسبات تحفظ استقرار لبنان وتبرّر «الصدمة الايجابية» التي أرادها من استقالته قبل العودة عنها على قاعدة «نسخةٍ منقّحة» من التسوية السياسية التي كانت أنهتْ الفراغ الرئاسي قبل عام ونيف. وفيما أعرب عون، الذي أبرق الى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز معزياً بوفاة شقيقته، عن أمله في أن يحمل الاسبوع المقبل المزيد من الايجابيات على صعيد معالجة التطورات السياسية، مؤكداً متانة علاقات لبنان مع الدول العربية والاجنبية كافة والتي يعمل على تعزيزها، كان لافتاً ما أعلنه الحريري في إطلالته عبر مع قناة «Cnews» الفرنسية بعد ساعات من مشاورات القصر أول من امس من أن على «حزب الله» أن يتوقف عن التدخل خارجياً وأن يقبل سياسة «الحياد» من أجل وضع نهاية للأزمة السياسية، مؤكداً «لا يمكننا القبول بحزب سياسي يتدخل في اليمن ضد السعودية، ولا أريد أن يقوم حزب سياسي في حكومتي بالتدخل في شؤون دول عربية ضد الدول العربية الأخرى». وإذ اعتبر أنه «لا يمكن لبنان أن يحل مسألة وجود (حزب الله) في سورية والعراق وكل مكان بسبب إيران، ويجب التوصل إلى حل سياسي إقليمي»، أعرب عن رغبته بالبقاء في منصب رئيس الوزراء إذا وافق «حزب الله» على التزام سياسة الدولة المتمثلة بالبقاء خارج الصراعات الإقليمية. لكنه أكد أنه سيستقيل إذا لم يلتزم «حزب الله» ذلك، رغم تشديده على أن المشاورات في هذا الصدد إيجابية حتى الآن. وعندما سُئل: «حين كنتَ هناك (في السعودية)، هل تفاجأتَ بما حلّ بك؟ وهل شعرتَ بالقلق لبعض الوقت»؟، أجاب: «كلّا. ذهبتُ إلى هناك لتحسين العلاقات. وحين رأيت أنّنا نواجه مشكلةً كبيرة جداً مع الخليج، كان عليّ أن أحدِثَ صدمةً إيجابية. أمّا بشأن ما حصَل هناك، فإنّ العديد من القصص خرَجت في هذا الشأن، لكنّني أحتفظ بذلك لنفسي»، واصفاً ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان بأنه «رجل إصلاح كبير جداً... ويريد حقاً استقرار لبنان».
مشاركة :