«تاريخ مصر القومي» للرافعي: هل يمكن كتابة التاريخ أن تكون نهائيّة؟

  • 11/29/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

من المؤكد أننا في بحثنا عن المثال العربي الأكثر دلالة على مسألة كتابة التاريخ، القديم أو الحديث، سنجد هذا المثال متوافراً في ذلك العمل الضخم والدؤوب الذي قام به المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي واستغرقه أكثر من عقدين خلال الربع الثاني من القرن العشرين. وكان ذلك نتيجة انكبابه بين عام 1930 وعام 1953 على وضع عدد لا بأس به من الكتب تحت عنوان عام واحد هو «تاريخ مصر القومي». فلقد عالج الرافعي في تلك المؤلفات التاريخية وفي ألوف الصفحات، بدءاً من عصر محمد علي الى حقبة ما أسماه بـ «مقدمات ثورة 23 يوليو» ما اعتبره التاريخ النهائي القاطع المكتوب مرة وإلى الأبد لمصر خلال قرن ونصف القرن من الزمن. وبفضل هذا العمل المجتهد والجبار، كميّاً على الأقل، لقب المؤرخ بـ «جبرتي» مصر الحديثة كما سنرى بعد قليل. فهل قصد الذين أطلقوا عليه هذا اللقب أن يمتدحوه حقاً؟ أم تراهم كانوا يوجهون اليه عبره شيئاً من الانتقاد، ولو الموارب؟ > الحقيقة أن ثمة مسألة فكرية ومعرفية بالغة الأهمية تكمن في الفارق بين الاعتبارين اللذين نشير إليهما. فأنصار الكتابة التاريخية النقدية يرون أن في اللقب تكريماً وتمجيداً للرافعي، بالنظر الى أن الجبرتي الأصلي كان عند مفترق القرنين السابقين لعصر الرافعي، مدوّناً أميناً وربما دقيقاً جداً أيضاً لتاريخ مصر. ولكن في المقابل، يرى مناصرو الكتابة التاريخية الحديثة والعلمية، أن التأريخ منذ القرن العشرين لم يعد مجرد تدوين ولو كان أميناً ودقيقاً للحوادث الكبرى. لم يعد مجرد سرد لما حدث أو/ ووقفات عند إنجازات الشخصيات التاريخية الكبرى. صار التاريخ شيئاً آخر تماماً ولا سيما مع ظهور مدرسة الحوليات الفرنسية التي تواكبت ولادتها مع بدايات جهود الرافعي، بل حتى مع إعادة اكتشاف مقدمة ابن خلدون التي لا شك في أن الرافعي قد عرفها عن قرب. بيد أن عمل الرافعي يبدو شديد البعد من تلك التجديدات، شديد القرب من البعد الذي جعله الجبرتي للكتابة التاريخية والذي هو امتداد لمدارس المؤرخين العربية - الإسلامية الكبرى التي ربما يكون ابن خلدون في مقدمته من أهم ناقديها. ومن هنا، قيل إن التاريخ مع مثل تلك التجديدات لم يعد هو نفسه التاريخ المعتاد. وهذا الأمر من الواضح أنه كان من الصعب على عبدالرحمن الرافعي إدراكه في زمنه. ومن هنا ربما يكون من المفيد أن نتذكر مع المؤرخ صلاح عيسى تلك الحكاية ذات الدلالة التي يرويها في مقدمة كتابه التجديدي عن «الثورة العرابية». > ففي مقدمة ذلك الكتاب، يروي صلاح عيسى، كيف أن «المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي»، دعي مرة خلال سنوات الخمسين وكان العمر قد تقدم به كثيراً، للمشاركة في عمل جماعي هدفه كتابة - أو إعادة كتابة- التاريخ المصري الحديث، فوقف مدهوشاً يتساءل: تريدون كتابة تاريخ مصر الحديث؟ ترى ألا تعلمون أنني كتبته منذ زمن بعيد؟ > من وجهة نظره، كان عبدالرحمن الرافعي محقاً في ما يقوله. فبالنسبة اليه كان «التاريخ» سجلاً لحوادث يكفي لقلم نبيه أن يدونها ويقضى الأمر. وهو لم يكن مؤمناً بأي من مدارس التاريخ الحديثة، التي تقوم على أساس فلسفة التاريخ، أو تحليل الحوادث أو مبدأ العلية، ومن هنا كانت دهشته، إذ يدعى للمشاركة في عمل، كان يرى أنه سبق أن قام به، بمفرده، وأن أية إضافات إليه لا يمكنها أن تكون أكثر من استكمال له بمعنى أن الجهود يجب أن تنصبّ على تدوين الحوادث التالية لتلك التي رصدها في كتابه. فإذا كان هو قد توثق عند زمن محدد، على من يكملون من بعده، إن كان هو، صحياً، غير قادر على ذلك، عليهم أن ينطلقوا من حيث توقف و «لا داعي طبعاً لإضاعة الجهد والوقت وربما المال أيضاً»! > والحال أن تأملنا في قائمة مؤلفات عبدالرحمن الرافعي، ستدفعنا الى الإعجاب بعمل دائم مكثف تحرّى وقائع التاريخ المصري طوال قرن ونصف القرن من الزمن، وأسفر عن كتب لا يزال بعضها يشكل، حتى اليوم، مرجعاً أساسياً لكل الباحثين في تاريخ مصر، وأكثر من هذا: مرجعاً موثوقاً به الى حد كبير، بالنسبة الى وصف الحوادث وتأريخها وتقديم سلسلة تتابعها، ولكن ليس طبعاً بالنسبة الى عملية تحليل التاريخ واستقراء دلالاته الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك من العناصر التي باتت تشكل العمود الفقري للكتابة التاريخية في أزماننا الراهنة. مهما يكن، فإن الجزء الأكبر من كتب الرافعي يتناول حقاً «تاريخ مصر القومي»، وهو تاريخ شرع عبدالرحمن الرافعي يكتبه منذ أواسط العشرينات، ونشر في عام 1929 جزءه الأول «تاريخ الحركة القومية»، ويتضمن «ظهور الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث وبيان الدور الأول من أدوارها وهو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية، وتاريخ مصر القومي في هذا العهد»، أما الجزء الثاني فيشمل المرحلة الفاصلة بين «إعادة الديوان في عهد نابوليون الى عهد ولاية محمد علي». ومنذ ذلك الحين تتابعت أجزاء ذلك التاريخ: «عصر محمد علي» (1930) و «عصر اسماعيل» في جزءين (1932) ثم «الثورة العرابية والاحتلال الانكليزي» (1937) و «مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال» (1942) و «مصطفى كامل، باعث الحركة الوطنية» (1939) و «محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية» (1941) و «ثورة 1919» في جزءين، ثم «في أعقاب الثورة المصرية» في ثلاثة أجزاء، وهذه الكتب وضعها الرافعي خلال النصف الثاني من الأربعينات، قبل أن يكتب «مقدمات ثورة 23 يوليو» ثم «ثورة 23 يوليو» ويعود بعدذاك الى «تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة» ثم الى «تاريخ مصر القومي، من الفتح العربي حتى عصر المقاومة والحملة الفرنسية» وهو كتاب طبع بعد وفاة المؤلف. > إذاً في هذه الأجزاء المتتالية مما يبدو وكأنه كتاب واحد دوّن عبدالرحمن الرافعي، الذي لقبه بعضهم كما أشرنا بـ «جبرتي مصر الحديثة» (تيمناً بالمؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي)، دوّن تسلسل الحوادث التاريخية في مصر، وهو لئن كان في بعض الأحيان قد حاول أن يحلل مسار التاريخ، فإنه في معظم كتبه ظل عند حدود السرد، وكان هذا واحداً من المآخذ الرئيسية عليه، من المؤرخين والنقاد، أما المأخذ الآخر فكان أنه كثيراً ما كان يقلب سترته (وفق التعبير الفرنسي) بمعنى أنه يكون مع عهد ثم ما إن ينقضي ذلك العهد حتى يصبح أقل حماساً له بكثير. ومن هنا يأخذ عليه خصومه، وخصوصاً الوفديين منهم، وقوفه بلا حدود الى جانب جمال عبدالناصر، وصولاً في بعض الأحيان الى التقليل من شأن زعماء من أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد، زعيمي «الحزب الوطني» الذي كان حزبه أولاً وأخيراً، ووضعهما في ظل عبدالناصر. والحال أن الرافعي لم يكن يرى في الأمر غضاضة، إذ، مثلاً، نجده في مقدمة كتابه عن «ثورة 1919» (الطبعة الثانية، 1955) يقول لنا انه بين الطبعة الأولى والطبعة الثانية، لم يحدث أي تغيير اللهم إلا تبديل عبارتين: أولاهما «القران السلطاني السعيد» بـ «زواج السلطان فؤاد»، والثانية «مولد الفاروق» بـ «مولد فاروق»! ولقد اشتهر الرافعي كذلك بهجومه على عرابي ومحمد عبده وسعد زغلول بنفي صفة الزعامة والفكر عنهم. ومع هذا، كان الرافعي هو الذي عرف دور المؤرخ ذات يوم بأن «المؤرخ يشبه أن يكون قاضياً في الحوادث التي يؤرخها وعليه أن يقتبس من القاضي روح العدل». > عبدالرحمن الرافعي الذي توفي في عام 1966، في زمن كان فيه محل تكريم واحترام، كان قد ولد عام 1889 في القاهرة لوالد كان من علماء الأزهر، وكان الرابع بين إخوة لم يبق منهم سوى أمين الذي أصبح صحافياً مشهوراً أيام الحركة الوطنية. > درس عبدالرحمن الرافعي الحقوق، وكان همه أن يعمل في السياسة والصحافة، أما التاريخ فكان الأبعد من همومه. وهو بالفعل خاض الصحافة في «اللواء» صحيفة الحزب الوطني منذ رحيل مصطفى كامل في 1908، وظل يكتب للصحافة طوال العقود التالية، كما خاض المعترك السياسي الحزبي، ثم النيابي، وعين في الخمسينات نقيباً للمحامين، وهو سجل تجاربه الحياتية والسياسية، خارج إطار تأريخه لمصر، في كتب عدة منها «مذكراتي 1889 - 1951» و «مجموعة أقوالي وأعمالي في البرلمان» و «14 عاماً في البرلمان»، كما أرّخ لجمال الدين الأفغاني في كتاب صدر بعد وفاته، وترجم «شعراء الوطنية في مصر».

مشاركة :