لوحات بديعة تتشابك فيها الأحرف العربية واللاتينية، تزين مداخل بعض المعالم الباريسية وساحاتها، وتدفع العابرين إلى التوقف لاستكشاف معانيها.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/12/04، العدد: 10832، ص(16)]تجريد حروفي باريس - الفنان طارق بنعوم فرنسي من أصول مغربية، رأى النور في مدينة سلا عام 1978، قبل أن يستقر مع أهله في مدينة تولوز جنوبي فرنسا، حيث ولع بفنون الغرافيتي التي كانت قد بدأت تجتاح كل مكان، فلما بلغ سن الرابعة عشرة التحق بورشة خاصة لفنون الزخرفة والطباعة والخط، تابعة لمعهد الفنون الجميلة، كان يديرها برنار آران، مؤسس “سكريبتوريوم تولوز”. وهناك تعلم بنعوم فنون الخط العربي على أيدي الخطاط العراقي الشهير حسن المسعودي، وخطاطين فرنسيين لا يقلون عنه شهرة، مثل كيتي ساباتييه وفيرونيك صابار. وهي ورشة تخرّج فيها عدة خطاطين ممتازين أمثال فرانك جالّو، وفرنسوا بولتانا، وماري ألين بافار، ولا سيما كلود ميديافيلا، أشهر خطاط في فرنسا. وما يتميز به طارق بنعوم إلمامه بقواعد الخط العربي إلماما نابعا من جذوره المغربية، وتمرسه بالخط اللاتيني القديم، ما جعله ينجح في المزاوجة بين الخطين، ليجعل الحروف اللاتينية تتشابك حدّ التماهي مع الحروف العربية. ويؤثث بنعوم لوحاته التي ينجزها في الفضاءات العامة، وفي المستودعات المهجورة شأن فناني الـ”ستريت آرت”، بكلمات العامة والخاصة، فهو ينهل من خطاب المعيش اليومي، ما يقال عن الحب والعنف والحياة والسعادة والموسيقى، مثلما ينهل من نصوص أدباء معروفين، قدامى ومحدثين، من دانتي وفينيلون ووليم بليك إلى خليل جبران وأدونيس وعبداللطيف اللعبي، ليخلق عالما يخاطب الجميع بلغة كونية. وبنعوم لا يني يستكشف صيغا غير معهودة، لا في فنون الشارع، ولا في التجريد الحروفي، ويحدث نوعا من التشويش الدلالي المقصود، لأن الغاية ليست نصا يقرأ، بل لوحة حروفية يقاربها الناظر مقاربة زائر متحف أو معرض فني. لوحة يتحلل فيها الزمن بفعل تقنية تداخل وتشابك بين الحروف والكلمات، وتطابقها بعضها فوق بعض، وتمططها أفقيا وعموديا في خطوط متقنة، للحصول على ما يشبه السيل المتموج.طارق بنعوم: أحب بشكل خاص تعريب الخط اللاتيني، لأعطيه قوة بصرية أكبر وآخر أعماله جدارية تمسح ثلاثمئة وخمسين مترا مربعا وتغطي حاليا فناء معهد ثقافات الإسلام بحي “لا غوت دور” أشهر حي شعبي في باريس، جعل عنوانها “الجملة الأخيرة، تحية إكبار إلى هيلين سيكسو”، وهي أديبة فرنسية من أسرة يهودية جزائرية لها حضور لافت في المحافل الأدبية والفكرية، اختارها بنعوم لأنها تمثل في نظره كوسموبولية هذا الحي المؤلف من شعوب مختلفة، تفرّقها الأعراق والأديان ويوحّدها البلد المضيف الذي صار الآن بلدها، وانتقى تكريما لها أربعة أسطر من كتابها “شراب الليمون” ليرصع به جداريته. وكانت تلك أضخم لوحة أنجزها في فرنسا، بعد “جدار أوبركامف” قرب ساحة الجمهورية بباريس، وقد استعان في إنجازها بصقالة بنّائين استعملها لخلق ترببعات متشابكة، وجاءت ممثلة أحسن تمثيل لتجربته كفنان شارعي لا يزال يطوّع الحروف والألوان منذ عشرين عاما لخلق أعمال بديعة. ويعتقد طارق بنعوم أن تجربته في فن الغرافيتي، وتكوينه في علم الخطوط اللاتيني، الكلاسيكي خاصة، إضافة إلى أصوله ورغبته في التجديد، كل ذلك جعل منه فنانا له تفرده وتميزه. وفي رأي الخطاط المغربي أن الكتابة في الفن الخطوطي، سواء أكانت مقروءة أو مشفّرة، تتيح نوعا من التوقّف عند الصورة للنظر والتأمّل والتفكير، فهي بالنسبة إليه أشبه بالحفاظ على اختلال بين نقطتين ثابتتين، فغايته كما أسلفنا هي استعمال الكتابة والخط والطباعة كوسيط زخرفي تام الشروط، متجاوزا بذلك حدود الرؤية الأكاديمية لحقله الفني، ولكنه يحرص في الوقت نفسه على ترك أثر يفتح على مستويات قرائية متعددة، تجعل من الكتابة الحروفية عملا فنيا متكاملا. وأعمال بنعوم بوأته مكانة متميزة في الفن الحضري المعاصر، كتعاونه مع مهندس الديزاين الفرنسي فيليب ستارك لتزيين واجهات الفنادق والمطاعم الفاخرة والملاهي الليلية والمحلات التجارية الراقية، أو استضافته منذ سنتين في الحديقة الحمراء لمؤسسة مونتريسو قرب مراكش، وهو فضاء يشجع على الإبداع ويستقبل فناني الغرافيتي والـ”ستريت آرت” والفن المعاصر الحضري من شتى أنحاء العالم والتعاون معهم في تطوير مشاريع فنية، أو قبوله تزيين أحد جدران المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بتكليف من الملك محمد السادس نفسه، الذي سبق أن اقتنى منه لوحتين تقديرا لفنه. ويقول بنعوم “أتخيّر النص قبل التفكير في الناحية الجمالية، حتى يكون متناغما دوما مع المكان وسكانه، ثم يأتي فن الخط، حيث أكتب النص بالفرنسية، ولكن إذا حلّلناه كلمة كلمة يتبدى لنا فن خط مبتكر.. ذلك أني أمزج الأساليب، بين الغوطي واللاتيني والشرقي والعربي.. بطريقة عفوية وارتجال غير قليل”. ومثلا، في جدارية “الغوت دور” ينطلق النص من العمود الأيسر، الذي يقرأ من أسفل إلى أعلى مثل نص هيروغليفي، يليه العمود الأيمن، فالدوائر، ويقول أيضا “أحب بشكل خاص تعريب الخط اللاتيني، لأعطيه قوة بصرية أكبر”.
مشاركة :