محمد البساطي يرسم نفسية الإنسان بمنتهى البساطة

  • 12/8/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الرواية هي تجميع عدد من القصص التي يظللها الغروب برداء واحد في رواية واحدة تحت اسم "ساعة مغرب". فتجدك تنقاد قارئاً في طريقه الذي رسمه بفنية عالية؛ حيث "آبا الحاج عبد ربه" الذي مضت سنوات على الشلل النصفي لزوجته التي سقطت بالسلم، ولم يدخل بها أبدا منذ ذلك الوقت. محمد البساطي يلاحق "آبا الحاج عبد ربه" من بين بوص الترعة الترعة، إلى سوق القرية حيث الفلاحون يتفاوضون وهم يبيعون ويشترون القطن بالقبان، إلى بيته المتداخل العائلات المركبة، حيث العجوز يتوه بين بناته وزوجات أولاده، ولا يميز أحفاده من أولاد الحارة.. ينشب قلمه كما ينشب صياد السمك صنارته لتغوص في ماء الترعة لتصطاد، ولكن البساطي يقصد صيد مشاعر وأحاسيس ومتاهات أفكار هذا الرجل "آبا الحاج عبد ربه" الذي تجده يعود من العزبة، من عند شجرة الجميز، فيشاهد البنت عارية والماء يصل إلى منتصفها، ونهداها العاريتان كحبتي ليمون (ص. 7 من الرواية) يحدجها بنظراته، فتقول له بينما هي تغطي صدرها بذراعيها: "إيه يآبا الحاج. إيه؟".. ينحنى مادا يديه.. يشهق مرتعشاً.. يرفعها من الماء.. يتأملها واقفا في ظل الجميزة. كيف لهذا العجوز الخرِف أن يرى فتاة عارية فينتشلها من النهر؟ وهل توجد فتاة عارية في الترعة؟ لقد رآها كأنما انبثقت من عتمة ظلال غير مرئية. رفعها بيديه.. هل هي حقيقة أم رؤيا في الخيال؟ لقد شاهدها وهي تقف أمامه عارية وتضع قدميها في فتحتي اللباس وتجذبه إلى أعلى. كيف يتصرف على هذا الحال؟ وهل يسمح له وضعه العمري والصحي أن يقف هذا الموقف، إذ زمجر مربدّ الوجه: "ابعدي يا بت. ابعدي! انهال عليها بالعصا الرفيعة.. مالت البنت وتلقت الضربات دون صوت..". كيف تتلقى الضربات بدون صوت.. هل هي مجرد خيال؟ لاحظ ما يكتب البساطي: "الساحات أمام البيت تغص بالرجال يتوسطهم ميزان قباني.. أكياس القطن.." يصف لك سوق القرية بتفاصيله، ويعرج بك إلى البيت المتشابك العائلات والأحفاد.."باب البيت الخلفي مفتوح دائماً.. يدخل حجرته في عمق الدار.. يغير جلبابه.. يسمع نقرا على الباب..هي واحدة من بناته أو نساء أولاده لا يعرف من تكون، وهي تحمل له صينية الغداء.. البنات يجلسن أمام الشكمة يلعبن بالحصى.." هذا العجوز المصاب بفقدان الذاكرة كيف لا يميز ابنته من زوجة ابنه، بينما يواقف فتاة الترعة ثم يتابعها أينما ذهبت؟ هل تلك الفتاة هي حورية البحر التي تأكل بعقله حلاوة؟ ينتقل بنا البساطي إلى أهل السوق الذين يتحدثون عن غلاوة الأرض، والرجل الذي باع أرضه.."أهل العزبة يتحدثون عن شخص مجنون باع أرضه كلها واشترى بثمنها أربع سيارات نقل.. القرش جرى في جيبه.." هل بيع الأرض مجز إذا ما اشترى صاحبها بها سيارات نقل؟ أم أن الأرض يرتفع سعرها بشكل جنوني، بدون شغل سيارات ونكد سوق؟ يعود بنا إلى البنت: "رآها تمر نحو الشاطئ.. تبادلا النظرات.. راحت تقذف الحصى إلى النهر.. زمجر فجأة وانحنى ملتقطا حجراً. -امشي يا بت. امشي! فتقول له: أمشي فين يا آبا الحاج." هناك حوار، وأصوات في المشهد.. هل الرجل العجوز في حلم وليس في علم..أم في علم وليس في حلم؟ "اختفت في حارة جانبية. وقف لاهثا يحدق في الحارة.." لاحظ أنه عندما دخل في الحارة اختفت البنت.."الضجة شديدة داخل المقهى.. سحب مقعداً إلى الشاطئ.. يسمعهم يتصايحون.. الراتب الذي لا يكفي.. وماله عبدالناصر؟ كانت الأحداث تتم بعد وفاة عبدالناصر.. ومن جاب سيرة عبد الناصر؟ هدف السارد هنا مقارنة مصاريف المعيشة أيام عبدالناصر حين توفي إذ كان سعر كيلو الأرز والسكر أربعة قروش، وبعد وفاته في السبعينيات قفز إلى أربعين قرشاً. البساطي يتنقل بعدسته الروائية بسرعة قصوى من مكان إلى مكان.. إنه يعود إلى الرجل "آبا الحاج عبد ربه" فيقول: "سار متلمسا طريقه على الشاطئ.. لمحها قبل أن تنتبه إليه قابعة خلف المقهى.. لمت ساقيها سريعا وانثنت لتقفز.. زمجر مندفعا إليها وركلها في عنف فتدحرجت بعيداً.. حين رأته واقفا توقفت.. اجتاز الشارع، تسير وراءه محتفظة بالمسافة بينهما.." وهنا نتأكد من دون تفسير البساطي.. أن الفتاة لا تعدو كونها حورية النهر.. وهي تتابعه أينما يسير..إنه رجل عجوز فاقد للذاكرة. "لم يكن يعرف لماذا الزغاريد ودقات طبل وغناء طهور حفيده.. كانت الأم غاضبة لنسيانه.." إذن هو ينسى.. ينسى حتى حفل طهور حفيده.. مما يجعل أم الحفيد تغضب لنسيانه. كان محمد البساطي لئيما "سرديا" وهو يتابع العجوز..أينما سار واتجه.. "قصد العزبة فرآها ظهرت مفاجئة.. كان يسير على شاطئ الترعة وكانت تسير على الشاطئ الآخر..اقتربت منه فسألها:" بنت مين يا بت؟ - أيوه عارفة. عايز تموتني؟ - تكوني عايزة تتجوزيني.. يسحبها قليلا.. ثدياها الصغيران. قطرات ماء عالقة بحاجبيها الكثيفين..اندفع وراءها متخبطا في الممر المعتم.." إذن الرجل التائه "آبا عبد ربه" بخرفه، والبعيد جنسيا عن زوجته المشلولة منذ سنوات، يرى في اليقظة شبح الأنثى. ويفكر بالزواج بها. مجرد أضغاث أحلام. إذن الجنس هو محور الشخصية، كما قال فرويد. وبدون تفسير من البساطي، نعرف أن الجنس يطارد العجوز، رغم العجز والخرف..الحب والذكورة تطارد الرجل الحي حتى مماته، في فعله؛ "ضربها" حيث يرى الذكر نفسه رجلا أو فحلا وهو يضرب أنثاه. وهكذا يرى البساطي أن الجنس هو الحياة وحتى نهاية الحياة.. أراه يكشف لنا ذلك الحافز أو الدافع الفعلي في الحياة.. إنه الحب والجنس.. يستمر يراوده حتى الممات..لاحظ نهاية القصة: "رأى ابنه الأكبر يتقدم نحوه. استدار عائدا إلى حجرته.. وقفوا حوله. فردوا لحافا على جسده. وجوه كثيرة.. أغمض عينيه." طبعا العجوز توفي من غير توضيح.. ولكن اللحاف على جسده، وليس على جسمه.. وجوه كثيرة حوله.. أغمض عينيه. ما أروعك يا أيها البساطي الذي كنت تصور بكلماتك أشياء غير بسيطة، ولكن بمنتهى البساطة.   صبحي فحماوي

مشاركة :