كيف شكل هيرمان هسه عالمه السردي الساحر يعد الروائي السويسري الألماني هيرمان هسه من الكتاب القلائل الذين يمكنك إعادة قراءة أي من رواياته لتكتشف في كل قراءة أسرارا جديدة، إذ يقدم الحاصل على نوبل للآداب عام 1946، عالما روائيا فلسفيا ساحرا وزاخرا بالمعارف والروحانيات واللغة النثرية، لكن عوالم هسه نابعة من حياته الثرية التي عاشها، وهو ما تبيّنه مذكراته.العرب وارد بدر السالم [نُشر في 2017/12/09، العدد: 10837، ص(16)]جدوى سردية فائقة الخيال والوصف مرة كتب أحدهم أن كتب المذكرات تكتظ بالأكاذيب وأنّ مؤلفيها وواضعيها هم عكس الحقيقة التي نجدها في سِيَرهم الذاتية بل هم نقيضها، وبقدر ما يكون هذا رأيا تعسفيا في إطلاقه حكما غير دقيق سنجد أن الكثير من السير الذاتية والمذكرات الشخصية لأدباء وسياسيين وعسكريين كبار لا تنقصها الصراحة ولا الصدق والجرأة أيضا في كشف حلقات اجتماعية وسياسية وأدبية مهمة ربما لم تتضح صورها الحقيقية في الكتابات الإبداعية، لكنها تتضح جليّة في السيرة الذاتية وآفاقها المتراكبة وسنواتها المكتظة بالأحداث، فتكون مثل هذه السِيَر مشوقة وممتعة ومفيدة، كمخاض تجارب ودروس حياتية وثقافية جديرة بأن تُقرأ وتُوَثق كأرشيف شخصي يهم القارئ والباحث والناقد كأرضية دالّة لمثل تلك الينابيع الإبداعية. آخر إصدارات دار سطور في بغداد كتاب راسخ في تجربته الأدبية والمعرفية وهو ما كتبه الأديب البارع هيرمان هسه كسيرة ذاتية انطلقت في فضاءات شاسعة من الحياة ووقفت على الكثير من المحطات الاجتماعية والمعرفية، منذ الطفولة وتشكلاتها الأولى اجتماعيا حتى بلوغ المجد الأدبي. سيرة ذاتية عريضة وأخّاذة لا تُلَخّص، ممتدة إلى اللانهاية واللازمن في اثني عشر فصلا أنموذجيا بطريقة التقديم الأدبي البارع والترجمة الحاذقة التي قامت بها محاسن عبدالقادر لتتكامل نصوص السيرة والسيرة من مبدأها الأول وهو الحرص على أن تكون شاملة تغطي حياة الرجل وإرهاصاته الأولى ومنذ حلمه الطفولي “أن أكون ساحرا” لأن الواقع “مجرد مؤامرة سخيفة من البالغين”. وفي هذه المذكرات نجد هسّه أكثر واقعية وهو يسرد مراحل الحياة التي مرت به في اثني عشر فصلا تمثل تجربة سارد استثنائي في الذات الإبداعية والشخصية والمعرفية التي انعكست على سلوكه ككاتب عبر مؤثرات لا بد أن تكون اجتماعية أو دينية أول الأمر (الأم- الأب- الجد- الآخرون بمختلف مسمياتهم) بواقعية الحدث الاجتماعي اليومي الذي كان فيه هسّه، وليست واقعية السرود الروائية العاصفة التي كتبها في روايته “لعبة الكريات الزجاجية” و”سدهارتا” و”ذئب البوادي” و”دميان” وغيرها من الروايات التي تتجدد قراءاتها مع مرور الزمن وتكتسب حلاوة القراءة والمتعة والفائدة في كل مرة. سنجد متعة التخييل الضارب في أسطورة الحياة التي عاشها صاحب السيرة وهو ما أشار إليه ثيودور سيولكوفسكي في مقدمته لهذا الكتاب المهم بأن موهبة هيرمان هسّه هي “في إخفاء نفسه بعبث خلف شخوص عالمه الروائي”، وهو “يخلق سيرا خيالية يظهر من خلالها إبداع الكاتب في تنوع من الأردية العابرة”. وحقيقة الأمر فإن الخيال السردي في مجمل رواياته هو الخيال الإبداعي العظيم الذي تمكن منه طوال تجربته الإبداعية الثرية جدا وكان الخيال النشط الذي يتمتع به مكّنه من صهر الواقع الذي عاشه وأحاله إلى جدوى سردية فائقة الخيال والوصف ويظهر هـذا واضـحا في مُتعه الـروائية كـلها تقريبـا. ومن خلال مذكراته نكتشف أن المعرفة السردية الفائقة التي كان عليها هيرمان هسه ليست معرفة قراءات فحسب، بل كانت نابعة من الجو الذي أحاطه اجتماعيا وأدبيا غذّى فيه الوعي وروح التأمل وأضفى على خياله الكثير من الصور التي انعكست في سردياته الروائية. نذكر من ذلك تأثيرات الموسيقى والطبيعة والقراءات وتعلم اللغة الإغريقية والاندماج الروحي مع الآداب الألمانية في القرنين السابع والثامن عشر وشيوع أفكار مثقفين وشعراء وأدباء وفلاسفة في زمنه كهولدرين ومورك وشلينج وهيغل والجد الساحر الذي يتكلم كل لغات العالم كلها، وتجاربه الشخصية مع الشرق ودياناته الأسطورية، والحرب التي أورثت فيه الكثير من الأسئلة في مخاضات عنيفة واجهته، وظروفه المتنقلة في اجتماعياته الكثيرة. كلها عوامل أثْرت تجربته وغذّتها بشكل مباشر أو غير مباشر وملأت مِداده بحكمة الكتابة التي اتجهت إلى منطقة الخيال السردي لكن بواقعية السيرة الحياتية والشخصية التي تغلّفت بقناع الكتابة المتوارية خلف شخصيته الفذة.
مشاركة :