راشد دياب يرسم أشكاله باختزال، بما يوحي برغبته في أن يحيل تلك الكائنات التي يرسمها إلى رموز مشحونة بطاقة لا نهائية. العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/12/10، العدد: 10838، ص(9)]رسام نساء محلقات بقوة الشعر لندن - تتدفق لوحاته ألوانا. طريقته في النظر إلى موضوعه الأثير توحي بالكثير من الاسترخاء والترف. لم يكن يعنيه أن يعلن عن هويته. تلك الهوية تقدمه برخاء رساما قرر أن يذهب الى الجوهر بأدوات أقل ما يُقال عنها إنها تجمع بين البساطة والعمق. يا لها من متعة يرسم راشد دياب أشكاله باختزال، بما يوحي برغبته في أن يحيل تلك الكائنات التي يرسمها إلى رموز مشحونة بطاقة لا نهائية. السودانيات بأزيائهن الشعبية التي تضفي على عالمهن الواقعي بهجة هي ليست جزءا منه. دياب قريب من رسامي الـ”بوب آرت” بتقنياته لا بموضوعاته. ولكن متى كان الموضوع مهما في الرسم؟ يميل دياب إلى أن يقول الشيء عينه في غير لوحة. ذلك لأنه بسبب انتشار فنه على المستوى العربي يعرف أنه حين يلجأ إلى التعريف فإن ما يفعله أو يقوله لا يمكن أن يُحسب على البداهة. كل شيء يأتي من هناك سيكون مدهشا وغريبا. دياب هو ابن ذلك الهناك الذي هو بوابة باتجاهين. الفاصلة الرقيقة بين أفريقيا والعالم العربي. لا يغوص هذا الرسام عميقا فليست لديه مشكلة ليعرضها أو يفتش عن حلول لها. متعته في الرسم هي الهدف الذي يرى أن خيال يده صار يذهب إليه مباشرة. يمكنك التعرف على رسومه من غير أن ترى توقيعه. لا أحد يرسم بتلك الطريقة سواه. وهي عادة وليست صفة. الرسوم تشبه رسامها. هي مثله قادرة على مزج المحلية بالعالمية. المركز الذي افتتحه دياب في بلاده يقول إن حلمه كله تجسد من خلاله. ويضيف "حلمي ظل دائما أن أعيش في مجتمع فني حقيقي بوطني. عدت إلى الخرطوم بعد غيبة طويلة دامت أكثر من عشرين عاما لأبني حلمي وأنعش رؤاي السودانية" ولد راشد دياب في مدينة ود مدني وسط السودان عام 1957. أنهى دراسته الفنية في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم عام 1978. بعدها سافر إلى مدريد ليحصل على شهادتي ماجستير من جامعة كمبلوتنسي. الأولى في التلوين عام 1982 والثانية في الحفر الطباعي عام 1987. عام 1991 حصل على شهادة الدكتوراه وكان موضوع أطروحته “فلسفة الفنون التشكيلية السودانية”. عمل أستاذا في الجامعة التي تخرج منها وفي الوقت نفسه افتتح غاليري خاصا به، رغبة منه في توثيق الإنجاز الفني السوداني والعمل على تطويره. بعدها أقام مركزا للفنون يحمل اسمه، وكان قد قرر في وقت سابق العودة النهائية إلى بلده والاستقرار فيه. يقول دياب عن حلمه الذي تجسد من خلال مركزه “حلمي ظل دائما أن أعيش في مجتمع فني حقيقي بوطني. عدت إلى الخرطوم بعد غيبة طويلة دامت أكثر من عشرين عاما لأبني حلمي وأنعش رؤاي السودانية، لكني في الأساس أبحث عن القناعة الذاتية والراحة النفسية التي يبعثها الأمل في أن أكون مفيدا في مجتمعي، وبالأخص في مجال الثقافة”. وضع الرسام والأكاديمي نصب عينيه هدفين لمركزه. تطوير الذائقة الفنية لعامة الجمهور القريب من الفن ومحاولة خدمة الفن التشكيلي السوداني من خلال عرضه وتوسيع رقعة الاهتمام به. وهنا يؤدي الفنان وظيفة الرائد في مجال التنوير الجمالي والمعرفي. فبقدر ما يسعى دياب إلى تسليط الضوء على منجز جمالي مهمّ يكاد يكون مجهولا في العالم فإنه يحاول في الوقت نفسه أن يطوّر من إمكانية التذوّق الجمالي لدى مواطنيه. شعر كثير ورسم قليل مفردات دياب قليلة. نساء وصحراء وما بينهما أشياء تنتمي إلى عالم الوهم. أشياء يمكن ألاّ تُرى إلا من خلال الرسم فهي جزء من عالمه الخفي. وهو ما أعان دياب على أن ينفتح بمفردتيه على تجليات غير متوقعة. ولأن الرسام يعيش زمن طفولة لا ينتهي هو عبارة عن ذاكرة لا تهتم كثيرا بالتفاصيل فإن رسومه تتشبث بذلك القليل الذي يظهر كما لو أنه خلاصة تجربة بصرية تستمد قوتها من الإيحاء غير المباشر لا من الصور المباشرة. وهو ما تعلمه دياب من الشعر. نساء وصحراء وما بينهما أشياء تنتمي إلى عالم الوهم نساء الرسام وصحراؤه يلتقيان عند هذه النقطة الحساسة. في رسوم دياب هناك شعر كثير ورسم قليل. وهي معادلة لا يملك أسرار عناصرها إلا رسام تمكّن من إلهام مرئياته. يوهمنا دياب بأنه يصف ما رأته عيناه وهو في الحقيقة يمشي في الدروب التي تقود إلى عاطفته. إنه لا يرغب في أن يخبرنا بأنه كان هناك باعتباره شاهدا بقدر ما يرغب في أن ينقلنا إلى ذلك الـ”هناك” باعتباره مساحة روحية يمكننا من خلالها أن نتعرّف على كائنات محلقة وهائمة لم يسبق لنا أن التقينا بها. صحراؤه ليست امتدادا أفقيا للفراغ بل هي خزانة أرواح وركام تجليات. ليست الصحراء لدى دياب مجازا تعبيريا. إنها حقيقة عاشها في طفولته التي ظللها النيل بزرقته. وهو لذلك يستثمر تلك الحقيقة إلى أقصاها. يذهب بها إلى مدياتها الحلمية المتاحة. يخضعها لشروط الحلم ليعيد النظر إلى هندستها التي تلهم أفكارا عما لا يُرى. “في الصحراء يمكننا أن نرى الـ’لاشيء’ وهو ضرورة حياة” هذا ما يمكن أن يقوله دياب عن رسومه يشكّل الفراغ جزءا حيويا منها. الغزل بالفراغ مهمة صعبة. غير أن الرسم يمكنه من خلال أوهامه أن يصنع معجزات كثيرة. فالرسام الذي درس في إسبانيا واطلع على التجارب التجريدية الإسبانية كان ماهرا في بعث الحياة في فراغ، كان من الممكن أن يكون قاحلا لو لم تمرّ به رؤى النساء اللواتي لا يستعرضن فتنتهن إلا من وراء حجب. نساء دياب المتشحات بأزياء سودانية يملأن رسومه أنوثة. وهو ما يثبت حقيقة أن الجمال هو فكرة الفنان عن العالم وهي فكرة تسبب السعادة لمَن يتلقاها. يرسم دياب نساءه برغبة عميقة في الغزل. وهو غزل يطوي صفحاته على صحراء عظيمة الجمال.سلسلة مبهرة من الأعمال الفنية يستوحيها راشد دياب من قصائد شعراء من السودان سوداني بمزاج عالمي كان لدياب علاقة مباشرة بالشعر. ففي واحدة من أهم مراحل تجربته الفنية أنتج الرسام سلسلة من الأعمال مستوحاة من قصائد شعراء من السودان هم محمد المهدي مجذوب وعبدالهادي الصديق وصلاح إبراهيم، كما خص الشاعر العراقي الرائد عبدالوهاب البياتي بعدد من رسومه. وإذا ما كان الرسام فد سعى إلى استلهام قوة الشعر في القبض على روح الصورة المرئية فإنه في ذات الوقت تعلّم من الشعراء القدرة على إخفاء جزء من المعنى، بحيث تنطوي رسومه على شيء من الغموض الشعري. غموض لا يمكنه اعتباره تعقيدا بسبب ما ينطوي عليه من رقة. لذلك فإن خفة كائنات دياب تحيل إلى الشعر وهي تمتلك من خلال إيحاءاتها الشعرية كثافة الشعر. من خلال صلته العميقة بالشعر استطاع دياب أن يمزج بين متناقضات عديدة. الرسام الذي أقام معارض عديدة في مدن عربية وعالمية استطاع أن يهب نساءه السودانيات من خلال رقة الشعر ملامح المرأة الخالدة التي تصلح أن تكون أيقونة في كل زمان ومكان. المرأة الرمز التي تهب الأشياء من حولها خفة الحياة. سودانية دياب كانت دائما بمزاج عالمي. هذه رسالته في الفن. رسالة مزدوجة حاول الرسام من خلالها أن يضع بلده على سلم العصر وفي المقابل سعى إلى أن يقول للعالم شيئا مختلفا عن السودان. وحين رأيت لوحة من السوداني الرائد إبراهيم الصلحي معروضة في متحف “ميتروبوليتان” بنيويورك فكرت في أنّ عرض تلك اللوحة في ذلك المكان العظيم سيسعد صاحبي دياب، وهو الذي نذر نفسه من أجل أن يتعرف العالم على فن بلاده.
مشاركة :