محجوب بن بله رسام الجمل الهذيانية بقلم: فاروق يوسف

  • 10/23/2016
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

رسوم التشكيلي الجزائري هي في أساسها كتابة هذيانية، لأنها تكاد تكون نوعا من المحاولة لاختراع لغة جديدة قوامها التفاعل البصري مع انفعال غامض يكاد الرسام نفسه يجهل دلالاته. العربفاروق يوسف [نُشرفي2016/10/23، العدد: 10433، ص(10)] محجوب بن بله جزائري تمرد على الحروفية ليدحرها بإيقاعاته لندن - لن يكون نافعا أن يبدأ التعريف به بأنه ابن أخ للرئيس التاريخي للجزائر. محجوب بن بله الذي عاش طويلا بعيدا عن بلده، لم يكن معنيا بالسياسة في فنه، بل إن شهرته العالمية لم تعطه الفرصة للاهتمام بانتشار فنه محليا وهو الذي عاش زمنا طويلا، ولا يزال، في فرنسا، ولم تعرض رسومه في الجزائر قبل العام 2012. الموسيقى بهيئة حروفية أكثر من أربعين سنة من الإقامة في فرنسا منحته أشياء ما كان في إمكان وطنه أن يهبه القليل منها. على الأقل على مستوى السعة في انتشار أعماله شعبيا. ومن أمثلة ذلك عمله “عكس الشمال” الذي غطّى الفنان فيه مسافة 12 كيلومترا من طريق باريس ــ روباي عام 1986 أو عمله الذي عرض على مساحة أربعة آلاف متر مربع في ملعب باسيمبو بساوباولو البرازيلية عام 1999 وكذلك ديكور محطة مترو كولبير بمدينة غرونوبل عام 2000. كل هذه المساحات حرص بن بله على أن يطرز هواءها بإيقاعات الحرف العربي. وهي إيقاعات ابتكرها الفنان بأسلوب يكشف عن حرصه على مقاومة التيارات التي دعت إلى استلهام جماليات الخط العربي. فيمكنه أن يكون حروفيا ويكون في الوقت نفسه غير ذلك. ما استفاده الرسام الجزائري من التجارب الخطية الأوروبية يكاد يعادل بقوة تأثيره ما استلهمه من جماليات الخط العربي. وهو في ذلك لا يشيد جسرا بين تجربتين جماليتين، بقدر ما ينشئ تجربة جمالية، مادتها الخط، لكن الموسيقى فضاؤها. الفنان الشهير خارج بلده كل ما فعله بن بله يمكن أن يدخل في مسعى الرسام إلى أن يؤلف موسيقى بصرية. ذلك المسعى كان يشكل دائما واحدا من أهم أهداف المغامرة التي خاضها الفن الحديث في محاولته التحرر من قيود وشروط المفهوم التقليدي للرسم. ولد الفنان الجزائري محجوب بن بله عام 1946 بمدينة مغْنيّة، درس الرسم بمدرسة الفنون الجميلة بوهران حتى 1965، بعدها التحق بمدرسة الفنون الجميلة بتوركوان، شمال فرنسا، وهي المدينة التي لم يغادرها حتى الآن، هناك حيث يعمل ويعيش. إخفاء الحرف واللعب بمصيره بخفة ولأنه رغب في تحسين معرفته الأكاديمية بالفن فإنه واصل دراسته بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس. يكاد بن بله يكون مجهولا في العالم العربي، ولولا العرض الذي قدمه عام 2012 لكان مجهولا في بلده أيضا. وكما يبدو فإن الفنان بسبب إقامته الطويلة في باريس واندماجه بالأوساط الثقافية هناك لم يلتفت إلى مسألة العرض في العالم العربي أو في بلده. إضافة إلى أن شهرته العالمية لم تحثّ المؤسسات الفنية العربية على الاهتمام بفنه، وهو أمر يمكن تفهمه إذا ما عرفنا أن تلك المؤسسات لم تظهر كبير اهتمام بكثير من الفنانين الذين يقعون في متناول يدها، فكيف حالها مع فنان، لم يجد أيّ معنى في الاقتراب بفنه منها. غير أن الاهتمام بفن بن بله وتقديمه عربيا كانا يـمكن أن يفيدا الــفن الـعربي أكثر من استفادة الرسام نفسه. ذلك لأن الحلول الجمالية التي تــوصّل إليها الفنان في مجال استعمال الحرف العربي في اللوحة تشكل مساحة مدهشة مضافة إلى عالم الحروفية الذي ضـاق بسـبب سوء الفهم الذي تعرض إليه والذي حوّله إلى فن تجاري بسبب غلبة الجانب غير الفني فيه واستجابته للذائقة الجمالية الشعبـية. رسوم بن بله هي في أساسها كتابة هذيانية، لا لأنه ليس في الإمكان قراءتها أو التحقق من معانيها بل لأنها تكاد تكون نوعا من المحاولة لاختراع لغة جديدة، قوامها التفاعل البصري مع انفعال غامض، يكاد الرسام نفسه يجهل دلالاته. وهو ما جعل من تلك الكتابة قريبة من التعاويذ والرّقى ذات الإيحاء الرمزي. بن بله يتبع يده في حرية استرسالها وهي تكتب من غير أن يكون ما تكتبه إلا في إطار صلحها الداخلي. أي أنها لا تكتب من أجل أن تتصل بمعنى أو تشير إلى دلالة. كتابة تتشبه بالهذيان وإذا ما كانت النتائج التشكيلية التي تظهر على سطح لوحته لا تشير بدقة إلى الأصول التي انبثقت منها فإن من المؤكد أن تلك الأصول التي تم التصرف بها بحريّة لا تخرج بعيدا عن محيط الكتابة العربية. انجذاب سحري تقترحه رسوم بن بله ليكون بديلا للفهم وهنا بالضبط نتيقّن من أن بن بله اعتبر الكتابة العربية مادته الخام التي صار يتصرف بسلوكها وهي تبتكر أشكالها بعيدا عن أيّ التزام معرفي سابق. فلا نص مقدس ولا تهويمات شعرية. وقد لا يكون صحيحا أن يكتفي بذلك الاستنتاج. فالكتابة العربية بكل ما تنطوي عليه من تاريخ جمالي لا يمكن أن تكون مجرد مادة خام خامدة. هناك ما يتفجر من داخلها وهو ما استفاد منه بن بله كثيرا بطريقة ذكية. هناك هذيان ينبعث من داخل الكتابة هو مصدر المحاولة الجمالية التي تجعل من كلّ كتابة نوعا من العبور إلى ما يلحق بها من انفعال، هو في عمومه تجريدي الطابع والمحتوى. بالتأكيد استفاد بن بله من تجارب الشاعر والرسام الفرنسي هنري ميشو (1899ــ 1984) في أسلوبه التبقيعي وفي محاولته الاستفادة من المقطعية الصينية. وهو ما قاده إلى طريقة خاصة في النظر إلى اللغة، باعتبارها كائنا لا يحيا إلا من خلال تفجره من الداخل وتشظيه. هناك نوع من الانجذاب السحري تقترحه رسوم بن بله ليكون بديلا للفهم. التذوّق البصري لا صلة له بالفهم. قد يعقد البحث عن معنى كل محاولة للإخلاص للصورة، باعتبارها نتيجة جمالية. ما فلت منه بن بله أن يصف علاقته بالحرف. وما من شيء يضمن بقاء تلك العلاقة إلى النهاية. العكس هو الصحيح، فكل شيء يوحي بأن الرسام طمح دائما إلى التحرّر من عبء الحرف ورسوخ دلالته. حروفية بن بله هي في حقيقة مسعاها تهدف إلى الهروب من القدر التقريري الذي وقعت فيه تجارب الحروفية العربية، بدءا من خمسينات القرن الماضي. هذا رسام لا تعنيه جماليات الحرف العربي في شيء. حساباته تبدأ من لحظة إخفاء ذلك الحرف واللعب بمصيره بخفة. صديق الحرف وعدوّه في الوقت نفسه. ولأنه ما من شيء مضمون في تلك اللعبة الخطرة فقد لجأ محجوب بن بله إلى تكوين الجمل الطويلة التي لا تنتهي، والتي تذكّر بحكايات ألف ليلة وليلة. وهي جمل حالمة، تملأ العين بترفها وثرائها وبذخ ما تهبه من نفائس. نادرة تلك الحالات التي تذكّر فيها لوحة من لوحاته بلوحة أخرى. فالانفعال لا يتكرر والهذيان يفعل الشيء نفسه. هذا رسام يقبل من بلاد بعيدة، حاملا خزائن من الصور التي يستخرجها من لا مكان ليذهب بها إلى لا مكان آخر. :: اقرأ أيضاً علي أبو الريش إماراتي يبحر بعيدا في فضاء الكتابة أهل الموصل بين رحى تحريرين 1959 - 2016 جان بيير فيليو مفكر فرنسي يرى الشرق كما يراه العرب

مشاركة :