"ألوان الطيف" سيرة ومذكرات لعادل أسعد الميري عابرة للمدن والثقافات بقلم: ممدوح فرّاج النّابي

  • 12/10/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

كتاب ألوان الطيف يندرج تحت كتابة الذات بمعناها الواسع وليس الضيق، حيث حضور الذات لا يأتي مُنفصلًا عن الوجع العام والكوني.العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/12/10، العدد: 10838، ص(12)]القاهرة الكوسموبوليتية في النصف الأول من القرن العشرين دأبت كتابات الذات أو الواقعة على دائرتها كرواية السيرة الذاتية واليوميات وغيرهما أن تفرد الصفحات للأنا لاجترار الذات والوقوف على ماهية الشخصية لحظات القوة والانكسار الضعف والهوان. وفي النهاية لتقول لنا إن هذه الشخصيات التي أخفقت هنا وهناك ها هي صارت واحدة من أشهر الذوات. كتاب “ألوان الطيف” لعادل أسعد الميري، الصادر عن آفاق للنشر والتوزيع 2017، يندرج تحت كتابة الذات بمعناها الواسع وليس الضيق، حيث حضور الذات لا يأتي مُنفصلًا عن الوجع العام والكوني. فثمة خلخلة لمفهوم الرواية وكذلك السيرة، فالنص يمكن إدراجه إلى كتابات مابعد الحداثة التي لم تعد تقنعها الحكاية التي ترويها الرواية أو حتى تسلسل الأحداث التي تجترّها الذات في سرد مسيرتها بكل ما تحمل من نجاحات وإخفاقات. وإنما نحن أمام نص شذري، مفتت يأخذ من الرواية بنيتها الشكلية ومن السيرة اجترارها للأنا ومن المذكرات تسجليها الدقيق للحوادث. كسر حدود الجنس في الإهداء يركز المؤلف على أن هذا العمل مذكرات ويعرّفها بأنها “هي شذرات من حياتي بين مصر وفرنسا، الحياة التي كان أهم ما فيها هو عملي كتورليدر (أي قائد مجموعات سياحية) أكثر من عشرين عامًا”. وبقدر ما يعتبر هذا بمثابة مثياق سيري بتعبير فيليب لوجون لكن لو تأملنا البنية الداخلية للنص لاكتشفنا بأنه على قدر ما يعمد المؤلف على مستوى الشكل إضفاء صبغة المذكرات، حيث البدء بالتواريخ في رأس كل وحدة سردية، لكن هذه الوحدات تفتقد للتصاعد الزمني الذي تقوم عليه المذكرات. فالكاتب يراوح بين أزمنة سابقة وأخرى لاحقة، ثم يعود إلى زمن الكتابة. فالنص يبدأ بعام 1960 حيث طفولته المشتتة يستمر في المحافظة على التسلسل الزمني رغم القفزات الزمنية حيث يعتمد على مبدأ الانتقاء والاختيار السائد في السيرة الذاتية، فيسرد عن عام 1965، ثم يقفز قفزة أبعد يصل بها إلى عام 1980، ثم تأخذ طابع التسلسل 1983 و1984 و1985 و1986 و1988. وبعد هذا التتابع الزمني وعرض الأحداث التي مر بها سواء في مصر أو في فرنسا إلا أنه يعود في الفصل الثالث إلى عام 1985 في تراجع زمني وخلال هذه الوحدة يحدث استقبال في الزمن حيث يعرض لأعوام 2000 و2002 راصدًا التغيرات التي ستحدث. هذا التواتر الزمني بين أزمنة قديمة وقفز إلى أزمنة حديثة يتكرر على طول النص. وهو ما يعني خرقا لطبيعة المذكرات التي تراعى خطًا زمنيا متصاعدًا بعكس السيرة التي هي خاضعة إلى الذاكرة والتي هي بطبعها قائمة على مبدأ الانتقاء والاختيار.في الإهداء يركز المؤلف على أن هذا العمل مذكرات ويعرّفها بأنها “هي شذرات من حياتي بين مصر وفرنسا، الحياة التي كان أهم ما فيها هو عملي كتورليدر (أي قائد مجموعات سياحية) أكثر من عشرين عامًا”. يتطرّق السارد وهو يجترّ ذكرياته أثناء عمله كمرشد سياحي بين القاهرة وأوروبا، لتفكيك الشخصية المصرية، وإن كان لا يصل إلى نتيجة عنها سوى اعترافه الصادم بأن “المصريين يحيرونني دائمًا” فيتوقّف عن غياب الحريات لا مستواها السياسي وإنما على المستوى الشخصية، فلا يستطيع الفرد أن يُقرِّر ماذا يريد وبمن يرتبط عارضًا لقصة المرشد أرمانيوس الذي تلقى صفعات من أبيه بمجرد أنه عرف ميله إلى فتاة من مذهب آخر. وتكرّر الأمر مرة ثانية، مذكرًا إياه بأن ثمة عهدًا بينه وبين ابنة عمه منذ طفولتهما. الأغرب أن الكاتب يقدم بحثًا في سلبيات الإدارة المصرية التي لم تكتف بأن تكون عقابًا للمصريين، وإنما صورة سلبية ومطاردة السائحين القادمين من أنحاء العالم لمشاهدة آثارها، وما يتلقّاه هؤلاء من إهانات ومماطلات تدفع بهم لتقديم شكاوى ضد الشركات، وهو ما سبّب خسائر فادحة بعض هذه الشركات توقف بسبب ما التعويضات التي دفعها للأفواج. ومن ثم تتحول المذكرات إلى دراسة حالة أو أشبه بتقرير مع الاحتفاظ بالأسلوب الأدبي والطابع التشويقي في سرد الأحداث. يميل الكاتب في كثير من الأحداث إلى عمل نوع من المقارنة بين الحياة في فرنسا وهو شاهد عليها، ومثيلتها في مصر التي عاش فيها فترة لا بأس بها. شاهد فيها الكثير من الانتكاسات والأزمات التي ألمّت بالمصريين. ويخرج من هذه المقارنات إلى تهوين ما يراه من مناظر بؤس وشقاء في مصر، ويتوقف عند انتقاد التدين الشكلي، ليس فقط على مستوى المسلمين ولكن أيضًا على مستوى المسيحيين ففي إحدى الزيارات يصطحبه صديقه كمال أرمانيوس إلى الكنسية وهناك يلاحظ أعداد النساء المتواجدات في القداس، ولكن مع الأسف لا أحد ينصت إلى ما يقوله الكاهن. كان الحضور لمجرد إثبات الانتماء الشكلي فقط. لا على سبيل الإيمان الحقيقي. البوح تطهر البوح يتأتي لشعور قديم في طفولته وهو في السادسة من عمره بعد الإحساس بأن هناك من لا يهتم به داخل البيت، فالأم تخرج، والأب لا يراه لطبيعة عمله كسائق حافلات، هذا الإحساس الذي كان يوخزه في الماضي وهو في أمسّ الحاجة للبوح وهو يتعرض للتحرش دفعه لأن تتعرى ذاته أمام مرآتها (الورق) وتبوح بكل ما هو مسكوت عنه. كنوع من التطهر أو الخلاص مما هو حمل عليها. لكن الكاتب يجعل بطله يصنع موازاة فيُعرِّي الجميع لا ذاته فقط. الإحساس بالافتقاد جعله لأن يجعل من ذاته أخرى، فيباعد بينهما وكأنهما ذاتان منفصلتان لا تنتميان إلى بعضهما هكذا “الطفل الذي كنته لم يذكر شيئًا لوالديه لأن الطفل الذي كنته كان يحصل على قدر كبير بالإحساس اللذة”. يستدعي في سرده طفولته المفتقدة للإحساس بالعائلة، ثم شذرات من دراسته، وحياته في فترة الشباب، ويرصد لنا ظروف عمله وطبيعته ويصف لنا المخاطر التي يتعرض لها وكذلك المضايقات وهي تكشف عن بيوقراطية النظام الإداري المصري، والتي تصل إلى تعنت بعض الأجهزة المصرية. وخلال هذه الرحلة ينقلنا بعدسته عبر رحلة بالكلمات إلى كافة المواقع السياحية المصرية مستفيضًا في وصف هذه الأماكن وعلاقة المصريين بالسياح التي تصل في أحد أطرافها إلى اعتبارهم غنائم من أيام الحروب الصليبية وهو ما يكشف عن مشكلة ثقافية تُعاني منها الحياة في مصر. وهو ما يعلنه من أن أزمة مصر ليست اقتصادية بل هي ثقافية في المقام الأول، وأبرز هذه الأدلة التي يسوقها وفاة الفتاة زينب على يد والدها وقد شك في حملها سفاحًا، وذلك لغياب الوعي الثقافي. كما يقدم صورة من صور التربية والتعليم اللتين ينتقدهما في فرنسا.حفريات في علاقة الشرق بالغرب وعلاقة المسلمين بأصحاب الأديان الأخرى الكتاب أشبه بحفريات في علاقة الشرق بالغرب وعلاقة المسلمين بأصحاب الأديان الأخرى، فيسرد ما رآه من فرحة غامرة وهو يجلس على مقهى في الألفي أثناء تفجير برجي التجارة العالمي في سبتمبر 2001، وكيف ما حدث عكس كراهية الشعب المصري لأميركا والتي لم يكن يتوقع أن تكون بهذه الدرجة. وبالمثل علاقة المصريين باليهود وخاصة بعد عام 1948 من خلال قصة سمعان الذي التقاه في المعبد اليهودي عند زيارته قبل مغادرة القاهرة. وكعادته لا يقف عند اضطهاد اليهود في مصر بل يقدم الكثير من المرويات التي تؤكد على اضطهاد اليهود على مستوى العالم فيسوق قصة الضابط ألفريد درايفوس الذي اتهم عام 1894 بتهريب وثائق حربية إلى الجيش الألماني، وعلى الرغم من براءته وإدانة ضابط مسيحي إلا أنهم اختاروا أن يكون كبش الفداء يهوديًا، وحكمت عليه محكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة وبالنفي إلى جزيرة تابعة لفرنسا، وهو الأمر الذي أجّج الكاتب أميل زولا فرفض هذا الاتهام وسعى بقلمه للدفاع عن درايفوس إلا أن ذلك لم يعجب الأغلبية الفرنسية، فاندلعت احتجاجات دموية عنيفة بين الأغلبية الفرنسية والأقلية اليهودية في عشرين مدينة فرنسية، ثم تحولت حملة العداء إلى زولا نفسه. وقتل فيها هو وزوجته بعد أن وضعوا غازات سامة في مدفأة الشقة. لا يتوقف عند رصد التغيرات التي حلت ببنية الشخصية المصرية وإنما أيضًا يقرن هذا بالتغيرات الطوبوغرافية للأماكن على نحو ما شاهده في ميناء دمياط الذي يبعد عن شاطئ البحر بعشرات الكيلومترات، على الرغم من أنه كان من قبل أكثر أهمية من ميناء الإسكندرية. وأرجع هذا التغير في طبيعة الموقع إلى ترسبات طمي النيل التي كان يتركها النهر في هذه المنقطة بسبب اشتداد أمواج البحر وضعف انسياب النيل. وهو ما توقف تمامًا بعد بناء السد العالي. وبالمثل يستفيض في شرح طبيعة الأراضي على ضفتي النيل أثناء رحلاته من القاهرة إلى أسوان، وزيادة خضرة الوادي من جهة إلى أخرى. صراع الهوية يتساءل بعد قضاء عشرين عامًا في مصر “أيهما بلدي، البلد الذي ولدت فيه أم البلد الذي أمضيت فيه عشرين عاما من شبابي ورجولتي؟”، في إشارة لحالة انقسام الهوية التي بدأ يشعر بها. بطله فرانسوا جولدينج المولود من أمّ فرنسية وأب إنكليزي يعمل سائقًا للحافلات الكبيرة. الرواية تكشف أول ما تكشف انقسامات الهوية الظاهرة في اسم البطل الذي يحمل الشق الأول منه اسمًا فرنسيًا والثاني إنكليزيا، وحالة الانقسام التي بدا عليها البطل لا فقط على مستوى العائلة التي كانت الأم تعمل وتترك أخاه ذا الأربعة أعوام مربوطًا بحبل مثل الحيوانات في مقعد. ومن ثم افتقد الحنان الذي وجده في العجوز الستيني الذي كان يسكن أمامهم في العمارة. أو حالة الانقسام التي بدا عليها البطل بين حبه لمصر التي عاش فيها عشرين عامًا وشهدت رجولته وطرفًا من كهولته وبين موطنه فرنسا التي عاد إليها. في لقطات دالة ومؤثرة يقدم لنا البطل تعرية لهذا الواقع المتناقض سواء مصر أو فرنسا على مستويات الجنس والدين التعليم والعنف والفقر. كما يعرض أيضًا لتوازيات من الصراع على الهوية كما علاقة مصر بالنوبيين، فيشير إلى أنه تاريخ من صراع مكتوم بين الطرفين؛ فثمة عنصرية من المصريين ضد النوبيين، وفي المقابل ثمة عدم ولاء أو حب من النوبيين للمصريين، كما ينتقد حالة السلبية فهو يقول “لا أهمية لأيّ شيء فكل شيء شكلي جدًّا، سطحي جدًّا، لا عمق له فالمهم لدى المصريين هو الشكل والمظهر ولا أهمية على الإطلاق للحقيقة”. وبذلك لا نكون أمام عمل روائي بقدر ما هو عمل تسجيلي يجمع بين السيرة والرواية والمذكرات، يدقق في سرد كل ما تقع عليه عيناه دون أن يأبه بالمسلمات أو التقاليد. فلا غرض سوى التعرية من أجل التقويم. كاتب من مصر

مشاركة :