اللوحة تروي حكايات مدينة السلام

  • 12/11/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: غيث خوري تملؤنا الأمكنة بعبقها وسحرها، وهي وفي أي حال كانت، وأي حضارة أو ثقافة تحتضن، إنما تحمل لقاطنيها خيالاً رقيقاً، وطيفاً من الذكريات الراسخة في عقولهم وقلوبهم، ذكريات الطفولة وأيام الصبا لربما، ذكريات الصداقات، ذكريات السير في طرقاتها والجلوس على أرصفتها وتمشيط شوارعها ذهاباً وإياباً، هكذا تثبت الأمكنة جذورها عميقاً في وجداننا، وتتركنا بلا وعي نغرق في حبها. هذا هو الحال في أمكنة عشنا وقضينا سني عمرنا فيها، فهل ينطبق هذا الحال في مدن لم نعش فيها أو حتى لم نزرها قط، هل يمكن لها أن تخترق وجداننا، هل يمكن لها أن تكون رمزاً وصورة ترتبط في تفاصيل معيشنا؟.. نعم يمكنها، ولربما هي قليلة تلك الأماكن والمدن التي تستطيع اختراق كل الحواجز، وتعبر حتى تستقر في كياننا.هي القدس.. المدينة الرمز والأيقونة التي حجزت مكانتها الراسخة في قلوب الناس، وشدتهم إليها عقلاً وفكراً.. تجاوزت كل حصون التعنّت والتجبر والدموية، ولم تعد مجرد مدينة بل أصبحت رمزاً للنضال والمقاومة في وجه واحدة من أعتى آلات القتل والتدمير - تدمير الإنسان والتاريخ والحضارة والإرث -، رمزاً راسخاً لنضال كان ولا يزال وسيبقى مستمراً حتى تعود للإنسان والأرض كرامتهما المسلوبة. لم تقتصر رمزية القدس في الجانب السياسي والنضالي، وإنما كانت في كل المجالات حاضرة كشكل من أشكال المقاومة، حيث استأثرت باهتمام الفنانين التشكيليين والباحثين في مجالات الفنون المختلفة، وحضرت في عديد من الأعمال التشكيلية لفنانين فلسطينيين وعرب وأجانب، أحسوا الوجع الفلسطيني ونقلوه في إبداعاتهم (رسماً، نحتاً،.. إلخ).معلمان معماريان بارزان، كانا حاضرين في جل الأعمال التشكيلية التي تناولت القدس والنضال الفلسطيني، هما «قبة الصخرة» و«المسجد الأقصى»، معلمان اختزلا زهرة المدائن، في رسوم ولوحات وصور ومحفورات ومنحوتات، وأصبحت الإشارة إليهما تقود مباشرة إلى حالة النضال والثورة تارة، وتصوير آلام وأوجاع الفلسطيني تارة أخرى.جاءت أعمال الفنانين توثيقاً لمأساة التشريد ولواقع المخيمات، في لوحات يكلّلها حلم العودة إلى فلسطين والوطن. وبرز فنانون اعتبرت لوحاتهم، فلسطينياً وعربياً وعالمياً ناطقاً رسمياً باسم الشعب الفلسطيني وحقه في العودة، ومن بين هؤلاء ناجي العلي وإسماعيل شموط وسليمان منصور ومصطفى الحلاج وعبد عابدي، إضافة إلى الأعمال التي قدمتها رائدات التشكيل الفلسطيني، منهن الفنانة منى حاطوم، المولودة في بيروت عام 1952 لأسرة فلسطينية هُجّرت من حيفا، والتي مثلت أعمالها بحثاً دقيقاً في الغربة الجماعية والذاتية، وقد كتب إدوارد سعيد في قراءته لأعمال حاطوم، يقول: «في عصر المهاجرين، واللاجئين والمنفيين، وهروب المدنيين، عصر المذابح والمخيمات، ومنع التجوّل، وإبراز بطاقات الهوية، تعتبر (أعمال حاطوم الفنية) بصفتها الأدوات العرَضيّة غير القابلة للمصالحة في علاقتها بذاكرة التحدي، هذه الذاكرة التي تواجه الذات دون هوادة وبالعناد نفسه الذي تواجه فيه الآخر الذي يطاردها ويقمعها».إن الحديث عن القدس وعن القضية الفلسطينية وحضورهما في التشكيل، يقودنا بلا شك إلى رائد التشكيل الفلسطيني، الفنان إسماعيل شموط (مواليد اللد 1930)، رائد تمثيل مأساة اللجوء الفلسطيني، والذي كانت أعماله تعبيراً صادقاً وحقيقياً عن عمق الألم الذي ألمّ بالإنسان الفلسطيني، من خلال رسمه شخوصاً تكتسي وجوهها ملامح من حزن وأسى عميقين لكنها أيضاً شخوص يشعّ من داخلها الكبرياء والتحدي والأمل في استرجاع حقها والعودة إلى الوطن الأم، كما تظهر المرأة كشخصية مركزية في أعمال شموط، بزيها الفلسطيني كاستعارة للأرض والهوية الوطنية، وقد رسم شموط في فترة الخمسينات لوحات تصور واقع حياة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، مثل لوحاته «سنعود» و«هل سيعود» و«اللاجئة الصغيرة» و«هنا كان أبي» و«إلى أين».في إحدى لوحاته نجد شموط يربط بين القدس والجماهير المجتمعة حولها، وحول قبة الصخرة الذهبية التي شكلت العنصر المحوري في اللوحة، وقد ظهرت على اليسار ثلاث نساء يرتدين اللباس التقليدي إحداهن تحمل الورد، والأخرى تضع يدها برقة فوق «قبة الصخرة» وكأنها تمسح كل الآلام التي عانتها القدس والشعب الفلسطيني، فيما تقف الثالثة رافعة رأسها ويديها متضرعة إلى السماء، وفي الخلفية تظهر معالم مدينة القدس وكنائسها وجوامعها وبيوتها القديمة، فيما ينتشر الأطفال في كل أرجاء اللوحة وكأنه تأكيد أن فلسطين ولادة لأجيال من المقاومين الذين بأيديهم سوف يصنعون حياة كريمة ومستقبلاً آمناً.تقف لوحة «جمل المحامل» للفنان الفلسطيني سليمان منصور، كواحدة من أبرز الأعمال الفنية التي تناولت القدس وفلسطين، والتي اكتسبت شهرة عالمية، وفيها يظهر ذاك الرجل المسن الذي يحمل فلسطين على ظهره، ذلك العجوز الذي اختصر رحلة كفاح الشعب الفلسطيني الطويلة والمريرة، رحلة نضاله ومعاناته وكبريائه الذي لا ينكسر، وكل إنسان يرى لوحة جمل المحامل، فلابد أن يحس بثقل الرمز الذي يصوره أولاً وجه ذاك الحمال وظهره المنحني بفعل جسامة القضية، أو في ذاك المحيط الفارغ والمهجور الذي يوثق حالة الشتات والترحال الدائم وفقدان الهوية.تصور لوحة «جمل المحامل» عتالاً يرزح تحت ثقل حمله الذي يتخذ شكل عين كبيرة تضم مدينة القدس، والتي يمكن التعرف إليها من خلال قبة الصخرة، بتشخيصه فلسطين من خلال صورة رجل عجوز، مرهق ومعزول.أعمال فنية لا حصر لها تناولت مدينة القدس كموضوع رئيسي، منها عمل الفنان عيسى عبيدو الذي جعل قبة الصخرة تتوسط لوحته عن القدس وتبرز كعنصر أساس، جاعلاً سور القدس يشغل القسم السفلي من اللوحة، كذلك يأتي عمل الفنان حسن نعيم بأسلوب واقعي مُبسط تماهى بين الرسم والتصوير والحفر المطبوع، ليصور التلال التي تنهض عليها القدس القديمة، لا سيما الأماكن المقدسة، الإسلاميّة والمسيحيّة.الفنان محمد الوهيبي، أحد أبرز الأسماء الفنية الفلسطينية، والذي قدم إنتاجاً فنياً باهراً، وضعه بين أهم التشكيليين العرب، سعى في لوحاته لنقل معاناة الشعب الفلسطيني وآلامه، وقد قدم في معرض مشترك تحت عنوان «القدس في عيونهم» شارك فيه مجموعة كبيرة من الفنانين العرب والأجانب، لوحته عن القدس، والتي لم تحمل بطبيعة الحال - كما هي عادة الوهيبي- نقلاً مباشراً أو تقليدياً لمدينة القدس، وإنما سعى فيها إلى استخدام الرمز والعناصر التراثية بأبسط أشكالها.. يقول الوهيبي في إحدى مقابلاته الصحفية: «الفن التشكيلي إجمالاً هو جزء بسيط من حالات النضال والمقاومة ومع ذلك فإن البساطة لا تعني أبداً عدم النضوج.. فالبساطة هنا تعني أن تكون سهماً ينطلق باتجاه سماء المعرفة، وهذه البساطة تكون مؤثرة وفاعلة من خلال فضح هذا العدو وفضح جرائمه ومؤامراته، ومن خلال الفن التشكيلي نحاول فتح كتاب الآلام ليقرأه العالم، وذلك عن طريق إظهار آلامنا وأحزاننا عبر اللون... وكل فنان له حالة من حالات التعبير فالقضية الفلسطينية هامش واسع لهذا التعبير الحقيقي. فالحلاج مثلاً له حالة تعبيرية خاصة، ومحمود درويش له حالة من حالات التعبير الدرامي، نقرؤها من خلال قصائده، فلكل فنان جزية معينة، ولكن جميعهم موجودون ضمن حالة تراجيدية واحدة، وكل منهم يحمل صندوق آلامه على كتفه ويعرضه بطريقته الخاصة. وكل إنسان له جهده وطاقته، فالفنانون في الشتات أو في الداخل أبرزوا ثقة الإنسان الفلسطيني بوطنه، والمؤكد أن كل ما يمارس من اعتداءات، لا يؤثر في تاريخ إنشاء لوحة فلسطينية فاللوحة الفلسطينية هي تاريخ لانتماء الإنسان لأرضه». عيون المستشرقين كانت فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، قبلة يؤومها العديد من الناس، فهم إما حجاج، وإما تجار من كل الأصقاع، وإما رحالة ومستشرقون، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر زار المنطقة العربية - وبطبيعة الحال فلسطين والقدس- العديد من الفنانين الأوروبيين الذين قدموا جملة من الأعمال التي تتناول الحياة والمواقع التاريخية التي زاروها.ومن أشهرهم الرحالة المصور الروسي مكسيم فاروبيوف (1787 1855م)، الذي رسم العديد من اللوحات الفنية منها: «منظر عام للقدس» لوحته الأشهر التي أظهر من خلالها جمال عمارة المدينة المقدسة. واحتوى ألبوم أعمال فاروبيوف في تلك الرحلة لمدينة القدس، على مناظر طبيعية مأخوذة مباشرة عن الطبيعة، وقد أحضر الفنان معه الألبوم ليرسم عليه في عجالة رؤيته للأماكن التي يزورها وليساعده فيما بعد على رسم لوحات تصويرية كبيرة عنها، وذلك بعد عودته إلى روسيا ومن هذه الأعمال «مدخل كنيسة السيد المسيح في القدس»، «عتبة معبد في القدس»، «في ضيافة عند شيخ عربي أبو غوشة»، ولوحة «القدس ليلاً» الموجودة في متحف تريتياكوف الحكومي في موسكو.كما زار الفنان الإنجليزي وليم بارتليت فلسطين، موثقاً رحلته في كتاب بعنوان «نزهات في مدينة القدس وضواحيها عام (1839) م». حيث كانت القدس المقصد الرئيسي من زيارة بارتليت لفلسطين. وقد حظيت بالاهتمام الأكبر في كتابه، وقد رسم مجموعة من اللوحات تظهر فيها مدينة القدس من جبل الزيتون، ومنها «القدس، مشهد من شمال شرق المدينة»، ولوحة «مكان الانتظار، القدس»، ولوحة «باحة المسجد الأقصى».ورسم الفنان الإنجليزي إدوارد ستانلي (1855، 1921)، لوحته (قبة الصخرة)، حيث نقل هذا المعلم العربي الإسلامي المفعم بالدلالات والرموز، بدقة متناهية، بألوان ترابيّة، وأسلوب مختصر بسيط، هدف منه إلى إبراز وتأكيد، موضوع اللوحة الأساس (الحرم وقبة الصخرة)، أما الرسام ديفيد روبرتس فقدم مجموعة لوحات خلال رحلته إلى الشرق التي بدأت عام 1838 وشملت مصر وفلسطين وسوريا ومن أهمها لوحاته للسور الغربي للقدس.

مشاركة :