ظل هكذا حتى شاخ فنًا وهم يتهمونه بأن ما يقدمه ليس بفن، بل مجرد كراتين مقطعة ومربوطة بحبال زاحفة، وأقمشة مكبلة بخيوط مع أدوات حادة يوجعها ضربًا بالسكاكين والمطارق لقطعها، ومن ثم إلصاقها وربطها بالحبال من جديد، وبأسلوب مختلف وقبيح... ليقابل الناس أعماله بسخرية مع الرفس بالأقدام. لكنه لم يعاركهم، فهي ليست بحرب، بل رسالة، ليستمر في استفزازهم بتلك المواد، ويقول ببساطة: «أنا لا أفعل سوى التعبير عما أنتم عليه، فلمَ الانزعاج من قطعِ غيارٍ تُحيط بكم وتستخدمونها ليل نهار، إنها أنتم». ويستمر بسحب الحبل، وكأنه الحبل السري المنسي للإنسان. يجرجره فلعله يقطعه بعد أن يقدم وظيفته السرية في صرف فضلاته من المفاهيم المعقدة... مستأنفًا تقديم هذا الفن الواقعي جدًا، وهو يتذكر حياتنا في الإمارات قديمًا والتي كانت من البؤس ما لا نتصوره الآن، حين كنا نشرب الماء مع الدود السابح فيه، بلا شك لم يكن يغادره ذلك كفنان، ليأخذه التعبير نحو خلطة من الماء والرمل والأحجار الصغيرة في قماش، ليعصره أمامنا بيديه كعمل فني يحرك به ذاكرتنا الغافلة. تمضي الأيام بنا وما زلنا عطشى كأرضنا ننتظر السيل، فيُلبس جذع نخلته السامقة من أسفلها إلى أعذاقها، بتلك العلب البلاستيكية والصواني الرخيصة، حتى يهطل المطر الساخط، ويطقطق بضجيج مجروح على واقع تلك العلب. يظل يردد: «أنا فنان واقعي ساخر، ولا انتماء لي إلا إلى الحاضر والمستقبل وأعمالي فقط، فأنا عكس غيري من الفنانين الذين ينتمون إلى الماضي والفن الجميل... نعم، لقد عبّرَ الماضون عن أنفسهم، وأنا أعبر عمّا نحن عليه». في بيته الكبير العاري من الأثاث، خصص غرفة برفوف كرفوف الجمعية يعرض عليها كل الأدوات البلاستيكية والحبال والكراتين والأقمشة الرخيصة والعلب، ليعمل من خلالهم بالنقيضين المتضادين، أي بالقَطع والرَبط، وبتكرارٍ يأبى في جوهره التكرار الممل. فبعد كل هذا الإزعاج يقوم مدافعًا عن أدواته الحادة والجامدة في أنها بلا صوت كهربائي، لما لها من خصوصية، تمامًا كالآلات الموسيقية الوترية، يمضي بهم في طريق وهو بلا طريق، فلم ينقذ طريقه في الحياة سوى المسرح ومتابعة الفنون والمكتبات والكتب، و يا لألف ليلة وليلة من كتاب بمؤلفه المجهول، فلا بد أنها امرأة لا رجل، بدليل انتصار شهرزاد على شهريار، لا بالقتال بل بالحكايات، وهذا نصرٌ أنثوي. إنه الفنان التشكيلي الإماراتي حسن الشريف الذي رحل عنا في سبتمبر 2016م لتعود به المخرجة الإماراتية المبدعة نجوم الغانم، في فيلمها (آلات حادة) توثقه لنا بعمق خلال عرضه في مهرجان دبي السينمائي الأخير، لتُبكي الحضور بصمت.
مشاركة :