سعيت في استعادة سيرة رزان زيتونة، المعارضة السورية التي اختفت من غير أثر ليلة 9 - 10 كانون الأول (ديسمبر) 2013، في مدينة دوما بضاحية دمشق، حيث لجأت رزان وحسِبت أنها بمأمن. وأخرني عن مباشرة تقصي أو تحقيقي تحفظ لم يلبث أن بدا عنيداً وكثير الوجوه، على خلاف توقعي. فأنا لم أحمل على محمل الجد التزام رزان المثالي، الصارم في مثاليته. وتراءى لي أن الأمر لا يخلو من ضرب من التعامي أو الخلل. وسوغت لنفسي أن ألقي على هذا الالتزام نظرة يلابسها شيء من الشفقة، كأن صاحبته غفلت عن منعطف كان ينبغي عليها أن تسلكه ومضت على وجهها غير مدركة سهوها، بينما في مستطاع أي كان أن يرى رزان في الصورة التي تتخبط في أوهامها. ولا يخلو الأمر كذلك، في ما بدا لي، من تفاوت بين نخبة علمانية تصدِّر فكرة الحقوق الإنسانية وتعلي مكانتها، بينما هذه النخبة منفية أو غريبة في مجتمعها. وأحالني تفاوت رزان إلى تفاوتي الشخصي. واتفق ابتداء تقصيّ مع سعي أصدقائها في كتابة أسطورتها. وحل اسمها، وهو لا ينفك يتردد على ألسنة من عرفوها ومن لم يعرفوها، في مواضع قوية الأصداء تحول دون انصرافي عنها. وتقع هذه المواضع في دائرة رجراجة وأليمة تلتقي عندها وتحتك انفعالات الأسف ومشاعر الخجل من النفس. فطوال مدة من الزمن غير قصيرة، أردت أن أكون على شاكلة رزان، ويعود الشعور بالخجل إلى تخلّيّ عن المرأة الشابة والمثالية التي كنت في بعض ماضيّ، وإلى خيانتها. وهو شعور حاد أخشى أن يستوطنني، وأن أبقي في صحبته وأجد نفسي ضئيلة وخانعة. وأكاد أسمعها تهمس أن قصتها، إذا خلصناها من ركام الحوادث والروايات، قد تتحول سفينة أو شبه سفينة، وتنتزع ناسها وعالمهم من الحدود السورية، وتجلو على طريقها فروعاً وأغصاناً تمتد فجأة وتتسابق وتتمازج وتتراكب وتشدنا كلنا إلى شباك هذه المسألة. والأرجح أن رزان آثرت الفصل بين الناس الذين عرفتهم وعملت في أوساطهم، ومالت إلى رفع الحدود والجدران بين دوائر حياتها ونشاطها، رداً على نهج تنتهجه حكومة بلدها، ويحمل السوريين، واحداً واحداً، على الإحساس العميق بعريه وهشاشته، لا يقيه شيء من الأنظار المسلطة عليه، ومضطراً إلى الانكماش البائس في قوقعته. والذين عرفوها، والتمست منهم تعريفي بها وحادثتهم، بذلوا وسعهم في استعمال صيغة الفعل المضارع وهم يتحدثون عن رزان، في ابتداء أحاديثهم. ولكنهم انزلقوا إلى صيغة الفعل الماضي، من غير أن ينتبهوا. وحدها بكر أخواتها ثبتت على صيغة المضارع ولم تتحدث عن أختها في صيغة الماضي. وهذه الأخت تزوجت بسوري أثناء هجرة الأسرة إلى كندا، وأقامت مع زوجها في المهجر هذا. وحين عادت أسرة زيتونة إلى دمشق، من غير الأخت، شابت العودة مرارة لم يخفف انقضاء الزمن من حدتها. وفي لقاءاتي بالأخت «الكندية»، وتناول قسط وافر منها اختفاء رزان، بدت متشبثة بأخبار وروايات شديدة التماسك، كأن هذا التماسك وساطتها إلى طرد التناقضات من الروايات الشائعة والمتداولة، وإلى تبديد الالتباسات التي تحيط بما حصل في دوما، في ليلة التاسع من كانون الأول إلى العاشر منه عام 2013. وتقول الأخت أن ما حملها على ترك دمشق هو حبها المدينة على نحو حب المرء (المرأة) الحبيبة (الحبيب)»، واستحالة الحياة فيها. وهي أرادت لأختها، رزان، أن تسلك طريقها، وهي الطريق التي سبقت إليها غادة السمان، الروائية والكاتبة السورية التي غادرت بلدها ومجتمعها إلى بيروت قبل أن تستقر في الغرب. وأحسب أن رزان أرادت أن تشق طريقاً أخرى تقودها إلى التحرر داخل المجتمع الذي يقيدها، وهي مقيمة على انتمائها إلى هذا المجتمع، تحدوها رغبة في فهمه والمساهمة في تغييره. وفي صورة فوتوغرافية تعود إلى أوائل تسعينات القرن الماضي (ولدت رزان في 1977، في المملكة العربية السعودية حيث كان والدها يعمل)، ترى المرأة الشابة في قميص وجينز عالي الخصر وحزام أسود عريض، وتتدلى من كتفها حقيبة ظهر رخوة، قصيرة الشعر، وعلى فمهما ابتسامة مرتخية. وقد يكون هذا، أي النحو الذي تبدو عليه في صورتها الفوتوغرافية والنحو الذي تصفها عليه كبرى أخواتها، ما دعا أحد أصدقائها إلى القول أنها «خرجت من لا مكان». وهي شبت في سورية هامدة، ومجتمع ضعيف النبض، أُخرس في مطلع الثمانينات وكُمّم. فلم يبق ثمة تيار أيديولوجي في مستطاعه جمع الناس أو ضوي بعضهم إلى بعض، وإسعافهم على تعرّف طريقهم: فالشيوعية والعالمثالثية تلهثان عياءً، والحياة الثقافية والسياسية هزيلة ولا تسمن من جوع. ونشأت رزان في هذه الأرض القاحلة، ونمت وحيدة ومستقيمة معاً. وقررت أنها وحيدة فعلاً، وهي في الرابعة عشرة، أن تستقل مادياً عن أسرتها. فدارت على البيوت بساعات اليد، وطرقت أبواب الشقق سعياً في بيعها. وهذا لم يسبق أحد رزان إليه في دمشق. ولم يفلح أهلها، وهم حاولوا ثنيها عن عملها، في ردها. وحين أرادت رزان، في 2013، المغادرة إلى دوما، تكررت مراحل النزاع هذا: مــعارضة إرادة رزان، فقبول جزئي، فتحفظات ضعيفة ولكنها مستمرة. وهذه المرة كذلك، الأخيرة ربما، أخفق أهلها وأصدقاؤها في صرفها عما عزمت عليه. ولم يرحب الجيران بصنيع جارتهم. والأرجح أنهم لم يكتموا رأيهم فيه. وأحسب أن النزاع المبيت بين الابنة وبين أهلها لم ينفك يتفاقم في هذا الدور من حياتها، وأفضى ربما إلى مشادات وصفق أبواب. ولكنني أحسب من وجه آخر، أن رزان بلغت من قوة التصميم وصلابة العزيمة ما مكنها من الصمت، ومن تجنب الاشتباكات التي تقود إلى القطيعة والانزواء في غرفتها مع كتبها. وتنبهت الشابة، في وقت مبكر، على غياب خالها أعواماً طويلة (بلغت العشرين في آخر المطاف)، علمت أنه يقضيها في السجن السياسي. ومن طاقة غياب الخال أطلت على دنيا فسيحة، غامضة ومعتمة تشبه عتمة السراديب. واختبر جيل رزان، وهو الجيل الأول من الناشطين دفاعاً عن الحقوق الإنسانية في سورية، دلالة مثل هذه الغيابات في دائرة عائلية قريبة. فهي كانت النافذة الضيقة التي أطل منها على غليان عالم سفلي يعج بنزعات كثيرة ومختلفة، وحفزته على توسيع الثغرة وتسليط الضوء الكاشف على الزوايا المعتمة. وحين كانت والدة رزان تعد العدة لزيارة شقيقها المعتقل، كانت إحدى القريبات التي اعتقل أولادها الثلاثة من قبل ولم يبلغها منهم خبر منذ سنين، توصي قريبتها من غير كلل: اسأليه عن أبنائي، هل رأى أحدهم؟ هل بلغه شيء عنهم؟ هل صادف أحداً روى له عن أحدهم شيئاً؟ أم لمح ظلاً؟ لا تنسيْ! وهذه الغيبات ينجم عنها تقطع أواصر وروابط، وشتات. ويتسلل الواقع المنخور بالفجوات إلى النفوس، ويصبغها بصبغته، ويصدع أركان مواطنة (مواطنية) متماسكة، ويحفر فراغاً يملأه الخوف ويمد منه أذرعه القاسية. وتعاظم التغييب آلياً حين أدرك النظام التهديد الذي يخيم عليه مع ابتداء الثورة، فبرزت قسماته ونتأت على نحو حاد. ويكاد التغييب، أو الخطف، أن يكون توقيعاً يمهر به النظام سياسته داخل حدود سورية وخارجها. وسبق له أن خطف ميشال سورا وجان – كلود كوفمان وموظفي السفارة الفرنسية ببيروت كارتون وفونتين. وأوكل بخطفهم في 1985 جماعة لبنانية تأتمر بأمر الأسد. ووحده ميشال سورا، وكان في الـ37 من العمر، لم يعد من بين هؤلاء، وقضى في سراديبهم. ولا يسعني إلا الجمع بينه وبين رزان، عساه يصحبها رفيقاً في محنتهما. ومقالات رزان الأولى كتبتها في أوائل عقد الألفين. وقالت لي صغرى أخواتها أن هذه المقالات نشرت في صحيفة «الثورة» السورية الرسمية. ووسم الصحيفة قرينة على اقتناص النظام مصطلحاً يلمس وتراً حساساً في المخيلة «الشعبية» أو الجماهرية. وتناولت كتاباتها يومذاك الأولاد المشردين، وتعنيف النساء. وحملتها كتابتها مقالاً في التشرد على تعقب ولد كان يستعطي في الطريق إلى باب منزله، وطرق بابه، وشتم والد الطفل على فعلته. وهذا ما لم يرَه أحد من غير رزان. واختارت الشابة على عتبة دراستها الجامعية، الصحافة. لكن نظام النقاط الذي يوزع الاختصاصات الدراسية على مجاميع محددة أغلق باب الصحافة في وجهها، وصرفها إلى المحاماة. وامتحن الإخفاق، هذه المرة، اعتيادها على الحصول على ما تشاء لقاء تصميم وعزيمة يصيبان أهلها وأصحابها بالإرهاق. ولا أحسب أن احترافها المحاماة بعد دراستها، حرفها عن جمعها الالتزام والكتابة في رغبة واحدة. فانتهى بها الأمر إلى دمجها الصحافة والكتابة في المحاماة، وكان ذريعتها إلى الانخراط في حياة مجتمعها، والمساهمة في صنع مصائره. واتفق دخول رزان الحياة النشطة مع رحيل حافظ الأسد. ولعلها لم تميز الحمى التي أصابت المجتمع السوري غداة وفاة مؤسس النظام، من استعجالها واستعجال أمثالها التغيير المنتظر. وانتشرت المنتديات في طول البلاد وعرضها، قبل أن تغلق كلها قبل نهاية 2001، ما عدا منتدى واحداً (الأتاسي). وأوقف عدد من المعارضين واعتقلوا. لكن القمع لم يفقد المعارضة الأمل. فنظمت صفوفها في إطار روابط وجمعيات مدنية وحقوقية، وحلت السياسة وأذابتها في الدفاع عن الحقوق الإنسانية وحقوق المرأة والبيئة وحرية الصحافة والقول... وكانت رزان في عداد الذين أنشأوا الجمعية السورية لحقوق الإنسان، من أمثال ياسين الحاج صالح ورياض الترك وعلي العبدالله وأنور البني وفارس مراد وعماد شيحا، وهم قضى واحدهم حوالى 30 عاماً في سجون النظام، وخرجوا منها محطمين جسدياً. وكان المحامي هيثم المالح وجه الجمعية البارز، وهو صاحب مكتب المحاماة الذي تدرجت فيه رزان. ولم تجب الحكومة طلب ترخيص الجمعية. وشأنها في مثل هذه المسائل تركت الأمر، وعمل الجمعية، معلقاً، فلم ترخص ولم تحظر. فحين كانت الجمعية تحظى برد على طلبها معلومات عن اختفاء هذا (هذه) أو ذاك (تلك)، كانت تسارع إلى تعليق الرد على لوحة بيانات الجمعية، وإبرازها دليلاً على اعترافٍ رسمي ومأذون بهما... وبعد الأسابيع الأولى من التظاهرات والتجمعات التي لم يطلق عليها بعد اسم «ثورة»، تساءل المتظاهرون عن طبيعة المواجهة التي يخوضونها، والآخذة في الاتساع، والمختلفة عن المواجهات السابقة مع السلطة. وتتساءل رزان، في مقال لها كتبته قبل أسابيع قليلة من خطفها، عما بدد الخوف من عنف النظام المتمادي وإعماله الاعتقال، والاغتيال، والإخفاء، والتعذيب، وعقود السجن من غير محاكمة، والصرف من العمل، والاغتصاب، في المعارضين. وأجابت أن هذا «التلاشي» هو «عري» النظام، وحسبان المتظاهرين وهم يرون هذا العري أن الأمل في إسقاطه، وبناء حياة كريمة على أنقاضه، ليس رهاناً مجنوناً. وكتبت: طوال حياتي كرهت بلدي وتمنيت مغادرته والرحيل عنه، ولكن حين بدأت الثورة لم أعد أرغب إلا في شيء واحد، أن أبقى في بلدي، وفكرت أن هذا البلد قد يصير من جديد بلدي، وما لا يصدق هو أننا أخذنا نخاطب العالم وأخذ العالم يجيبنا ووقعنا في غرام أهل درعا وحمص، وكانوا موضوع تندرنا. ولم تتنصل رزان من الثورة حين عسكرها تواطؤ النظام والإسلاميين. ونمّت صورتها الفوتوغرافية الأخيرة بهرم وشيخوخة أصاباها في أقل من نصف سنة. * روائية وكاتبة فرنسية (حازت رينودو على كتابها هذا)، عن «في (ذات) الهمة/ قصة رزان زيتونة محامية سورية، دار أكت سود، باريس، 2017، إعداد منال نحاس.
مشاركة :