منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب إلى القدس»، وبرر ذلك بالقول «اتخذت قرارًا أنه حان الوقت للاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل»، لم تتوقف ردود الفعل العربية المعبرة عن رفضها القبول به، وشجبها له. وإذا ما استثنينا، ما جرى في المناطق المحتلة، وفي مقدمتها القدس، التي اكتسبت فيها الاحتجاجات طابع العنف عبر الصدامات المتكررة والمتصاعدة، التي تحمل في أحشائها احتمالات «انتفاضة فلسطينية ثالثة»، مع العدو الصهيوني، والتي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء، ومئات المصابين، والمزيد من المعتقلين، لم تتجاوز ردود الفعل تلك حواجز العبارات الشاجبة التي بثت نسبة عالية منها قنوات التواصل الاجتماعي، والمظاهرات التي جالت بعض المدن العربية، واجترار شعارات يعود البعض منها إلى سبعينات القرن الماضي. في حقيقة الأمر المشهد ذاته يكرر نفسه عبر الأجيال المتلاحقة التي شهدت «نكبة 1948»، و«هزيمة 1967» وتراجع «1973». ردود فعل آنية تفاوتت في درجة المواجهة العنيفة التي وصلت لها، لكنها لم تستمر حتى «تكنس الكيان الصهيوني، وتعيد الحق إلى أهله»، والأهل هنا لم يعودوا سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة فحسب، بل تجاوزها كي يصل إلى حدود الدول العربية المجاورة لفلسطين، مثل سوريا ومصر ولبنان. محصلة كل ذلك تعني، وتجسد على أرض الواقع أن مشروع «أرض إسرائيل الكبرى» يسير، وأن يكن بخطى بطيئة، لكنها غير متعثرة. وتلتهم، المؤسسة الصهيونية حتى ما لا تستطيع هضمه عدوانًا، كي تستخدمه كورقة مساومة على ما في وسعها الإبقاء عليه بحوزتها، وفرضه على أرض الواقع. إسرائيل الكبرى أو أرض إسرائيل الكاملة هي التفسير الصهيوني، لعبارة «تشير لحدود إسرائيل حسب التفسير اليهودي لكتابهم المقدس كما في سفر التكوين 15:18-21 حيث يذكر عهد الله مع إبراهيم: 18 فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَقَدَ اللهُ مِيثَاقًا مَعْ أَبْرَامَ قَائِلًا: (سَأُعْطِي نَسْلَكَ هَذِهِ الأَرْضَ مِنْ وَادِي الْعَرِيشِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ. 19 أَرْضَ الْقَيْنِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ، وَالْقَدْمُونِيِّينَ 20 وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ 21 وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ)». وقد عملت المؤسسة الصهيونية ما في جهدها من أجل نقل هذا النص إلى مشروع سياسي كانت بدايته الاحتلال الصهيوني لأراضي فلسطين في العام 1948، لكن أصوله التاريخية تعود إلى القرن التاسع عشر على يد مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل الذي كتب في العام 1895 كتيبًا حول هذا الموضوع، أتبعه في العام 1897 بعقد «المؤتمر الصهيوني الأول في بازل». وكما تجمع العديد من المصادر «فقد بلور زعيم الصهيونية الأول حركته الشيطانية في دعوة تبناها اليهود في الشتات مفادها أنه يتعين على اليهود أن يشكلوا دولة يهودية خاصة بهم، وأن يهودية هذه الدولة يجب ألا تعتمد على الجوانب الدينية أو الاخلاص لليهودية وفضائلها، وإنما يجب أن تعتمد على الشكل القومي اليهودي». وبخلاف الكثير من الدعوات العنصرية مثل الفاشية، والنازية، نجحت المؤسسة الصهيونية بما نسجته من تحالفات دولية، ومشروعات وبرامج عملية، أن تقيم هذا الكيان المسخ، وتمكنت من الدفاع عنه على امتداد السنوات السبعين من عمره. وخاضت في سبيل هذا المشروع عشرات الحروب المحدودة وذات النطاق الواسع، التقليدي منها وغير التقليدي. وتمكنت من الزحف البطيء لكنه المتواصل كي تتمدد على حساب الأراضي العربية المجاورة. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة على فكر أي عربي، وليس كل فلسطيني فحسب، هو كيف نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق ما خططت له، رغم الظروف المناوئة لها. فهي في نهاية الأمر كيان محدود، مطوق من دول عربية يفترض أنها، وخاصة شعوبها، تحمل قناعة راسخة برفضها للمشروع الصهيوني من أصوله وجذوره؟. استعراض سريع لا يدعي الالتزام بالمعايير العلمية في البحث والرصد، يرى أن التفسيرات العربية لذلك ترجعه إلى تضافر مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية توفرت بين يدي مؤسسي وقيادات الحركة الصهيونية، التي نجحت في استخدامها على نحو مبدع، تمكنت من خلالها تأسيس ذلك الكيان، وضمنت القدرة على الدفاع عنه، واستطاعت أن تواصل تمددها الذي يكرس قراءتها هي للنص التوراتي الذي يعد بقيام «دولة إسرائيل الكبرى». العامل الأول من تلك التفسيرات ذو بعد إيدلوجي، وهو ربط قيام «دولة إسرائيل» بنص إلهي مقدس، استطاع من يقف وراء المشروع أن يجيره بذكاء لصالحه بطريقة تضمن الولاء لذلك المشروع، وتحتضن استمراريته، وقدرته على التناسخ عبر أجيال وأجيال متتابعة. العامل الثاني هو عامل المال، فقد عرف عن اليهود شغفهم بجمع المال، وقدرتهم على تكوين ثروات طائلة دون التردد في اللجوء إلى الأساليب غير المشروعة، والمنافية لأولويات أخلاق جمع المال وزيادته. فتجمعت بين أيدي مؤسسي الحركة الصهيونية، ولم يتغير الحال اليوم، أموالًا طائلة سخروها لخدمة المشروع، واستفادوا منها في نسج التحالفات الدولية مع منظمات شبيهة من أجل تحقيقه. العامل الثالث هو السلاح، فقد دأبت الحركة الصهيونية، ومنذ تأسيسها على الاقتراب من الدوائر المسيطرة على صناعة السلاح، وتمكنت من الحصول على الكثير من أسرار اختراعاته، دون ان تفرط في حقها على الوصول إلى مراكز تصديره كي تضمن تدفقه على خلايا الحركة الصهيونية بداية، والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد تأسيس «الدولة» لاحقًا. وتمسكت آلة الحرب الإسرائيلية من حيازة أحدث الأسلحة وأشدها فتكًا، بما يسد حاجتها، ويدافع عن مشروعاتها، داخل فلسطين، وخارج حدودها. العامل الرابع، هو الإعلام، فقد بنت المؤسسة الصهيونية أدواتها الإعلامية التي تحتاج لها في خدمة ذلك المشروع، ولم تتلكأ في السيطرة من خلال المال على المؤسسات الإعلامية ذات النفوذ الدولي، من أجل ضمان الترويج لمشروعها العدواني، وتبرير سياساته العدوانية لدى دوائر صنع القرار، بما فيها تلك العاملة تحت إمرة منظمات عالمية مثل الأمم المتحدة والوكالات الأخرى، وعلى وجه الخصوص الغربية منها نظرا للثقل الذي تتمتع به في صنع الرأي العم العالمي، الذي يحرص الكيان الصهيوني على تحييده، عندما يفشل في كسبه إلى جانبه.
مشاركة :