غيّب الموت مساء أول من أمس الاثنين النحات المصري عبدالهادي الوشاحي عن عمر يناهز 76 عاماً. ويعد الوشاحي أحد أبرز النحاتين المصريين المعاصرين. وهو صاحب نهج وأسلوب مميزين في مجال النحت الحديث. وتُعرض له أعمال في متحف الفن المصري الحديث ودار الأوبرا المصرية، وأماكن عدة أخرى في مصر، وله تماثيل ميدانية في كل من إسبانيا وإيطاليا. رحل الوشاحي وهو مسكون بالقلق على وطنه. لم يكن يشغله في أيامه الأخيرة سوى تلك الأفكار الغريبة التي تسللت أصواتها عبر وسائل الإعلام, لتعيد الحديث والنقاش الذي سبق وأن أنهته الذاكرة الثقافية المصرية في بدايات القرن الماضي حول قيمة الفن وحُرمته. هذه الأصوات المتشنجة هي أكثر ما كان يثير قلقه، لكنه كان يرى دائماً أنه أمر دخيل سرعان ما يزول. فالثقافة المصرية ستنتصر حتماً على طيور الظلام لا محالة. أقام الوشاحي معظم سنواته الأخيرة داخل محترفه في حي المقطم شرق القاهرة، وعلى مقربة منه دارت اشتباكات ونُظمت مسيرات. تسربت إلى أنفه رائحة الدخان المسيل للدموع وتناهت إلى سمعه الهتافات والمسيرات الصاخبة. كان يشعر في قرارة نفسه أن ثمة ولادة جديدة تحدث، شيء ما يموت ليفسح الطريق إلى شيء آخر أكثر نبلاً. «الأجيال الجديدة أكثر جرأة، وهي لن ترضى أن تعود مصر إلى كبوتها مرة أخرى»... «الوطن كبير يسع الجميع»، كلمات طالما كان يرددها، وهو يتجول بناظريه بين الأعمال المحيطة به. ثم لا يلبث أن يتوقف ليلفت انتباهي إلى تفصيلة في أحد تلك الأعمال. تواعدنا على اللقاء في مقهى «ريش»، في وسط القاهرة، وما أن وصلنا إليه، حتى وجدنا شباباً يدعون الناس للتوقيع على وثيقة «تمرد» التي كانت تطالب برحيل الرئيس السابق محمد مرسي عن الحكم. توقف الوشاحي من أجل التوقيع. حين هممت أن أعرفهم به، أشار لي بالصمت. من يعرف الوشاحي هنا؟ هكذا أسر لي بعد أن انتهى من توقيع الوثيقة. كان هناك إحساس دفين بالغبن وسط هذه الحالة من الثقة والإحساس بالذات اللذين يطغيان على هيئته وأحاديثه. هل كان الوشاحي يشعر بالغبن حقاً؟ لقد حصل على جائزة الدولة التقديرية قبل عام، وكان سعيداً بها رغم تأخرها. تمثال طه حسين الذي صنعه من أجل إقامته في أحد الميادين في القاهرة لم ير النور لأسباب لا يعلمها رغم تكليفه من قبل وزارة الثقافة المصرية. رحل الوشاحي من دون أن يحقق رغبته في إقامة ذلك التمثال الذي شغل جزءاً كبيراً من وقته واهتمامه، تاركاً نماذج أعماله المصبوبة بالبوليستر في محترفه كما هي، ليحلق بعيداً، في خفة منحوتاته ذات البناء الصرحي: «الشهيد، تشوف، محاولة لإيجاد توازن، القفزة المستحيلة». رحل الوشاحي تاركاً الوطن وهو يتشكل من جديد، لعله يمحو أدران القهر وعبء السنوات العجاف. تخرج الفنان عبدالهادي الوشاحي في قسم النحت - كلية الفنون الجميلة (القاهرة)، وسافر للدراسة في إيطاليا، وأقام في إسبانيا سنوات عدة. وكان لا يزال طالباً في السنة الثانية في كلية الفنون الجميلة حين فاز بجائزة في «صالون القاهرة». وكان في ذلك الوقت دائم المشاركة في المعارض الجماعية التي كانت تقام في القاهرة . وكانت له، رغم حداثة سنه، أعمال معروضة في متحف الفن المصري الحديث في القاهرة. ومثلت الستينات فترة خصبة في حياته، بما تحمل من مشاعر قومية ووطنية وإحساس عميق بالنهضة والرغبة في التحرر. فخلال تلك السنوات أنهآ الوشاحي دراسته في الفنون الجميلة، وفيها أيضاً كانت أولى رحلاته إلى أوروبا، إذ سافر إلى فرنسا عام 1965 لتمثيل مصر في بينالي باريس الدولي، وبعدها بثلاثة أعوام تقريباً سافر إلى أوروبا حيث قضى هناك سبعة أعوام متنقلاً بين إسبانيا وإيطاليا.
مشاركة :